• التقدير الاستراتيجي (120): السلطة الفلسطينية بين الحلّ وتغيير الوظيفة… السياقات والسيناريوهات

    تزايد الحديث في الأشهر الماضية عن مستقبل السلطة الفلسطينية، وإمكانات حلها أو انهيارها في ضوء توجه القيادة الإسرائيلية لضم أجزاء من الضفة الغربية، وتبني الإدارة الأمريكية للرواية الصهيونية وسعيها لإنفاذ صفقة ترامب التي تنهي عملياً مسار التسوية السلمية القائم على اتفاق أوسلو. واتخذ الحديث شكلاً جدياً مع قرار قيادة السلطة الانسحاب من جميع الاتفاقات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي.

    ثمة ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل السلطة أولاها حلُّ السلطة، غير أنه غير مطروح جدياً لدى قيادة السلطة مع وجود مخاوف من عدم قدرة الجانب الفلسطيني على تحمّل تداعياته. والسيناريو الثاني هو تغيير وظيفة السلطة وهو مطروح بقوة لدى العديد من المثقفين والسياسيين، بحيث تقتصر مهمة السلطة على الجانب الإداري، بينما يتم تحويل الجانب السياسي إلى منظمة التحرير. أما السيناريو الثالث فهو سيناريو الانتظار والاستمرار في المسار نفسه، وهو ما يظهر أن قيادة السلطة تسير فيه، على الأقل بانتظار نتائج الانتخابات الأمريكية.

  • الضغوط الاقتصادية على السلطة الفلسطينية.. الدلالات والخيارات

    وافق مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينيت) في 17 فبراير2019، على اقتطاع 502 مليون شيكل إسرائيلي (حوالي 138 مليون دولار) من أموال المقاصّة التي تعود للسلطة الفلسطينية مُدّعيّاً أنّها مقابل الرواتب التي صرفت لعائلات الأسرى والشهداء الفلسطينيين خلال العام 2018.

    وتأتي هذه الخطوة الإسرائيلية عقب خطوات أخرى مارستها الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترمب من وقف المساعدات والمشاريع الأمريكية في الضفة الغربية، وهو ما أثار أهمية طرح هذه القضية على خبراء في الاقتصاد للتعرف على دلالاتها وانعكاساتها على الاقتصاد الفلسطيني، وقدرة السلطة الفلسطينية على الالتزام بتقديم خدماتها للموظفين.

    وفي سبيل تحقيق هذه القراءة، طرح مركز رؤية للتنمية السياسية تساؤلات عدة على خبراء فلسطينيين اقتصاديين، لمعرفة تقييمهم للوضع الاقتصادي للسلطة وأبرز التحديات؟ وما هي دلالات ممارسة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل للضغط الاقتصادي على السلطة؟ ما هي انعكاسات انخفاض وتيرة الدعم المقدم من قبل الدول المانحة لخزينة السلطة عليها؟ والخيارات المتاحة أمام السلطة الفلسطينية في ظل تراجع الوضع الاقتصادي؟

    من أبرز إجابات الخبراء بهذا الشأن:

    • يستبعد الخبراء أن يتم إيصال السلطة الفلسطينية إلى مرحلة الانهيار، لأن في بقائها حاجة إسرائيلية أمريكية دولية، وبالتالي الضغوط الاقتصادية التي تمارس قد تعمق الأزمة المالية للسلطة لكن لن تصل لمرحلة الانهيار.
    • الضغوط الاقتصادية على السلطة تأتي في إطار هدفين، الأول الإبقاء على السلطة الفلسطينية في حالة ضعف بهدف عدم الخروج عن الشكل الذي أوجدت له، والأمر الثاني ضمن حالة الابتزاز التي تمارسها أمريكيا وإسرائيل في سبيل فرض صفقة القرن والرؤية السياسية للمنطقة.
    • الخبراء قدموا مجموعة من الخيارات التي قد تذهب لها السلطة لتقليل أثر هذه الخطوة، تمثّلت في إعادة هيكلة السلطة الفلسطينية ومؤسساتها بما يتناغم والواقع الاقتصادي بحيث يتم تركيز النفقات وفق الأولويات، وتنفيذ خطة تقشفيّة في النفقات، إضافة إلى ضرورة تحريك الدبلوماسية الفلسطينية بما يضمن توفير بدائل إضافية لتوفير إيرادات تغطي النقص الناتج عن الخطوتين الإسرائيلية والأمريكية.
    • وهناك حالة واحدة قد تسعى من خلالها إسرائيل وأمريكيا إلى إنهاء السلطة؛ وهي عندما تنضج صفقة القرن ويكون هناك حاجة لتغيير النظام السياسي كاملاً، فإنها قد تذهب باتجاه إنهاء الواقع الحالي واستبداله بهيكلية أخرى تتناغم وما تريد، وهذا لن يكون في هذه الفترة.

    دنصر عبد الكريم، الخبير المالي والاقتصادي وأستاذ الاقتصاد في جامعة بيرزيت

    الوضع الاقتصادي للشعب الفلسطيني بعمومه ليس جيدا، وفي العام 2018 بدا واضحا مظاهر الركود والتعب على الاقتصاد الفلسطيني، وجاء هذا القرار من قبل حكومة الاحتلال ليعمق هذه الأزمة.

    المساعدات الدولية بدأت تتراجع عما كانت عليه بداية نشوء السلطة، فمنذ العام 2010 وحتى2017 وصلت نسبة تراجع الدعم إلى قرابة 70%.

    فيما يتعلق بتأثير قرار حكومة الاحتلال على الاقتصاد الفلسطيني باعتقادي يتوقف على كيفية تنفيذه، فهل سيتم خصم المبلغ كاملا في شهر مارس2019 وبالتالي ميزانية السلطة ستكون في أزمة واضحة أم أنه سيتم توزيع الخصم على شهور السنة وبالتالي يكون تأثيرها أقل ضرراً؟

    أما ما يمكن أن يترتب على هذه الخطوات، أستبعد إمكانية حدوث حالة انهيار للسلطة الفلسطينية، كما أن هذه الخطوات لا تصل لمرتبة الحصار المالي، فلو أرادت إسرائيل أو أمريكيا فرض حصار مالي ستنتهي السلطة عن الوجود نهائيا، وبالتالي الهدف من هذه الخطوات عقابيّ؛ للمسّ بقدرة السلطة على الوفاء بالتزاماتها كاملة وقدرتها على تقديم خدمات مقنعة وكافية للناس، وهو ما يعني إبقاء وضع السلطة على الحد، بمعنى عدم انهيار وفي ذات الوقت عدم الاستقرار.

    في المقابل، قد تسعى إسرائيل أو أمريكيا لفتح المجال لتعويض هذا النقص من خلال بعض الدول سواء الاتحاد الأوروبي أو بعض الدول العربية للحفاظ على حالة الهدوء.

    وهناك حالة واحدة قد تسعى من خلالها إسرائيل وأمريكيا إلى إنهاء السلطة؛ وهي عندما تنضج صفقة القرن ويكون هناك حاجة لتغيير النظام السياسي كاملاً، فإنها قد تذهب باتجاه إنهاء الواقع الحالي واستبداله بهيكلية أخرى تتناغم وما تريد، وهذا لن يكون في هذه الفترة.

    أما الخيارات الفلسطينية، فمن باب أولى أن تكون حاضرة دائما حتى دون الخطوات الابتزازية، لكن للأسف هذا غير موجود في منهجية إدارة السلطة، وتتعامل بردّات فعل مع كل أزمة، ومنذ اليوم الأول لتأسيسها والسلطة تستسهل الحلول وتعمل على ترحيل الأزمات.

    والبدائل تتمثل أولا: بإعداد خطة تقشف مدروسة دون الإضرار بحقوق الناس، فهناك نفقات غير ضرورية وفيها هدر. ثانياً: محاولة توفير بدائل متنوعة لمصادر الدخل للسلطة، وهذا يجب أن يكون على أجندة الحكومة الفلسطينية القادمة. ثالثاً: موضوعية الضرائب بحيث لا يتم رفع الضرائب وإنما تقليل نسبة التهرب الضريبي.

    الخيار الرابع والمهم هو العمل على تنشيط الدبلوماسية الفلسطينية بحيث يتم إضافة مساعدات جديدة من بعض الدول، وهذا منطق، لأنّ الوضع الاقتصادي الصعب قد يخلق حالة عدم استقرار وتوتر وبالتالي يمكن من خلاله الضغط على السلطة بهذا الاتجاه.

    دعمر عبد الرازق، وزير المالية في الحكومة العاشرة، وأستاذ الاقتصاد في جامعة النجاح الوطنية

    الوضع الاقتصادي للسلطة حرج جدا حيث إنّها لن تستطيع الوفاء بكامل التزاماتها التمويلية. كما أنّ البنوك ستكون في وضع صعب إذا أصرت أمريكيا على معاقبتها إذا استمرت في تمويلها للسلطة أو التعامل معها ماليا. ولكن لا أعتقد أنّ الأطراف المختلفة ستسمح بانهيار السلطة الفلسطينية التي أصبح وجودها مصلحة استراتيجية للاحتلال، خاصّة وأنها أثبتت جدارتها في القيام بالمهام المنوطة بها وخصوصا على المستوى الأمني.

    منذ اتفاقيْ أوسلو وباريس استخدمت إسرائيل والولايات المتحدة الأموال (من الدول المانحة ومن المقاصة) أدوات للضغط الاقتصادي لتحقيق أهداف سياسية. فما تفعله الولايات المتحدة حاليا هو ابتزاز رخيص للسلطة الوطنية الفلسطينية للضغط عليها للتراجع عن رفضها لقاء الأمريكان أو عودة المفاوضات بدون تعديل الوساطة إلى وساطة دولية وليس فقط أمريكية.

    أما انعكاسات هذه الخطوات فالسلطة ستعاني في المدى القصير من ضائقة مالية خاصة إذا خوفت الولايات المتحدة المانحين الآخرين وأجبرتهم تعليق منحهم وربطها بالمطالب الأمريكية. ولكن على المدى البعيد يجب أن تغتنم السلطة الفرصة وتعمل على الاستقلالية عن كثير من الدول المانحة وخاصة تلك التي تربط منحها بالعملية السياسية وتطورها والبحث عن مصادر وآليات أخرى لتمويل العجز في الموازنة.

    فيما يتعلق بالخيارات المتاحة أمام السلطة الفلسطينية في ظل تراجع الوضع الاقتصادي، فتتمثل بالضغط السياسي على إسرائيل من خلال الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الأخرى، والضغط الميداني من خلال عدم مطاردة المقاومين وعدم ملاحقتهم بأي شكل، وعلى المدى البعيد: جعل النظام الضريبي الفلسطيني أكثر إنصافا بحيث يكون تصاعديا حقا، وأن تتحمل طبقة رجال الأعمال حصة أكبر في العبء التمويلي للسلطة الوطنية، والاستثمار بالشراكة مع القطاع الخاص في مشاريع إنتاجية بحيث ترفد الموازنة، والعمل على تخفيض حصة الأمن في النفقات الحكومية ورفع حصة النفقات الاجتماعية المختلفة.

    دسعيد هيفا، أستاذ الاقتصاد في جامعة بيرزيت

    أكبر التحديات التي يواجهها الاقتصاد الفلسطيني حالة الركود وارتفاع نسبة البطالة بمعدل 34%، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلال ما بين الضفة وغزة، ولكن الأهم من هذا الرقم هو أن هذه النسبة هي بين الشباب والخريجين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 19 – 24 عاما، حيث تتجاوز نسبة البطالة 40%. هذه النسبة ستكون مرشحة للزيادة نتيجة الظرف الحالي الذي تمر به السلطة، والتغيرات الخاصة بالعلاقة مع إسرائيل التي تقوم على الشق المادي، وكذلك العلاقة مع أمريكيا والإجراءات المالية التي اتخذتها ضد كل المشاريع الممولة أمريكيّاً.

    ورغم كل ما سبق، أعتقد أن حدوث حالة انهيار اقتصادي للسلطة صعب جدا، بغض النظر عن شكله، لأنّ كل هذه الإجراءات الأمريكية الإسرائيلية تأتي في إطار الابتزاز، وليس من مصلحة جميع الأطراف انهيار السلطة الفلسطينية، لذلك ستبقى هناك حالة دعم وإن قلت.

    لكن يمكن الحديث عن نسبة عجز عالية وأخشى أن تلجأ السلطة الفلسطينية لتغطية هذا العجز من خلال بعض الخطوات على حساب المواطنين كرفع الضرائب والرسوم رغم أن الوضع الاقتصادي العام لا يحتمل هذا الأمر.

    باعتقادي إذا كان هناك قرار رسمي اقتصادي رشيد يمكن العمل على زيادة الإيرادات وتقليص النفقات، وقد يكون هناك بدائل عربية أو دولية أخرى لأنّ البقاء على الشكل الحالي بوجود السلطة هو مصلحة أساسية للأطراف الرئيسة من بينها أمريكيا وإسرائيل.

    الضغوط الاقتصادية هذه تأتي ضمن حالة الابتزاز في المواقف السياسية وحالة التطويع وفقا للرؤى والخطط التي تسعى أن تفرضها أمريكيا وإسرائيل بحق القضية الفلسطينية، وباعتقادي يمكن للسلطة عكس هذا الأمر بحيث تدفع باتجاه تقييم الحالة وإعادة المسار الذي تقوم عليه باتجاه مختلف عن الواقع الحالي، وبالتالي البحث عن استراتيجية أخرى للتعامل مع الواقع الجديد.

    سيكون للخطوات الإسرائيلية الأمريكية انعكاسات على قطاعات مختلفة أهمها رواتب الموظفين ثم يمتد إلى الاقتصاد الفلسطيني، فالإنفاق الحكومي هو محرك للاقتصاد، وهو ما يعني مزيداً من تردي الواقع الاقتصادي ومزيداً من البطالة.

    أما الخيارات المتاحة فتتمثّل بإمكانية الذهاب لخطة ترشيد الإنفاق الحكومي، الأمر الثاني التركيز على دعم القطاعات ذات الأهمية بحث يكون هناك تركيز على الأولويات، والخطوة الثالثة تكمن في الاستغناء عن بعض النفقات في قطاعات معينة وفقا لمفهوم الأولويات، فمثلا الصحة والتعليم لهما الأولوية الأولى ويمكن التركيز عليهما، وباقي القطاعات يمكن العمل على مراجعة نفقاتها.

    وأحد الخيارات: الذهاب بدراسة البطالة المقنعة داخل بعض المؤسسات الحكومية، بحيث يمكن الاستفادة من الطاقات من خلال تدويرها، وكل ذلك يحتاج لقرارات شجاعة.

    دنائل موسى، أستاذ الاقتصاد في جامعة النجاح الوطنية

    باعتقادي التحدي الأكبر أمام الاقتصاد الفلسطيني أن السلطة الفلسطينية بنت موازناتها على المساعدات الخارجية، بالإضافة إلى الإيرادات المحلية، فالمساعدات الخارجية يتحكم فيها رضى الدول المانحة عن أداء السلطة، وبالتالي الخطوة الأمريكية والإسرائيلية ستؤثر على حجم الإيرادات للسلطة وهو ما ينعكس على الموازنة العامة.

    ما قامت به إسرائيل سيؤثر على الحقوق الداخلية للسلطة الفلسطينية، فعمليا أموال المقاصة هي إيرادات داخلية وهي حق للفلسطينيين. وبالتالي انقطاع هذه الإيرادات أو اقتطاع جزء منها سيكون له تأثير على أدائها وواقعها الاقتصادي.

    أما فيما يتعلق بمسألة الانهيار أو العجز الذي قد تعاني منه السلطة، فيجب أولا فهم الفلسفة التي أقيمت عليها السلطة، فبقاؤها مصلحة إسرائيلية لأنها تشكل أرخص احتلال في العالم، وفعليا نحن لم نتحرر، بالتالي إسرائيل لا تريد انهيار السلطة، وإنما بقاءها في وضع دائم صعب وقاسٍ اقتصاديا حتى تبقى أولويات السلطة غير الأولويات التي يجب أن تكون، بمعنى أنه يجب على السلطة إدارة الأزمة المالية الداخلية وعدم التفرغ لأي خطوات سياسية.

    هناك هدفان لهذه الإجراءات، مرحليّ يتمثل في الانتخابات الإسرائيلية، ومنه تعزيز مفهوم تجريم المقاومة، بحيث يصبح مفهوم المقاومة يتضارب مع المصالح الذاتية حتى عند الفلسطيني نفسه، الهدف الاستراتيجي وهو صفقة القرن بحيث يتم إيقاع السلطة الفلسطينية في أزمة مالية كبيرة من أجل القبول بمواقف سياسية أو تبرير المواقف السياسية التي يمكن القبول بها فلسطينيا أمام الشعب الفلسطيني نفسه، وأنها جاءت استجابة للضغوط المالية المفروضة.

    أمّا الخيارات المتاحة أمام السلطة فيمكن أن تكون بالذهاب للاقتراض من البنوك المحلية، أو الذهاب للدول الصديقة والشقيقة لتقديم دعمها خلال هذه المرحلة، لكن السؤال إلى متى يمكن الذهاب لهذه الخيارات المرحلية، والمدة الزمنية التي يمكن أن تغطيها؟

    على صعيد الخيارات المحلية الداخلية أعتقد أنها خيارات محدودة وتحتاج إلى إعادة هيكلة السلطة وترشيد النفقات.

    أما الخيار ذو الفعالية الأكبر باعتقادي، لكنه يحتاج إلى موقف حاسم، هو ما تحدث عنه الرئيس من إمكانية عدم القبول بالأموال إذا كان مقتطعا منها أي نسبة، وبالتالي يمكن أن يكون الموقف الفلسطيني من الاتفاقيات إما أن تطبق بشكل كامل وإما عدم تطبيقها بشكل نهائي، وهذا قد يعني التجرد من التنسيق الأمني وهي ورقة ضغط قوية وستضع إسرائيل في موقف محرج وبالتالي دفعها للالتزام بالحقوق الفلسطينية.

  • مقال: قيادة السلطة بين الشرعية الفلسطينية والشرعية الدولية

    بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    السلوك السياسي لقيادة السلطة الفلسطينية، التي هي قيادة منظمة التحرير، في مواجهة حدث تاريخي ومفصلي هو ضم الكيان الصهيوني لأجزاء واسعة من الضفة الغربية وتطبيق صفقة ترامب، هو سلوك يثير الاستغراب إن لم يكن الاستياء.

    إن إعلان قيادة السلطة في 19 أيار/ مايو 2020 وقف العمل بالاتفاقيات مع الاحتلال الإسرائيلي وتحميله جميع المسؤوليات والالتزامات أمام المجتمع الدولي كقوة احتلال لأرض فلسطين المحتلة، وكل ما يترتب على ذلك من تداعيات وتبعات، هو بحد ذاته وفي إطاره النظري خطوة إيجابية وفي الاتجاه الصحيح.

    غير أن هذه القيادة سعت لضبط وترتيب تموضعها الجديد بما يتوافق مع البيئة الدولية و”الشرعية الدولية”، بينما غاب عن إعلانها السياسي وعن إجراءاتها كل ما يتعلق بإعادة تموضعها الفلسطيني. ولم تُقدِّم إجراءً واحداً جاداً متعلقاً بترتيب البيت الفلسطيني؛ الذي اهترأت مؤسساته وأطره الدستورية والتنفيذية تحت قيادتها، ونتيجة إصرارها على الاستئثار بالسلطة وفرض سيطرة فصيل معيّن على مؤسساتها، وفرض سياسات وقرارات باسم “شرعيات” لم تعد تعبّر بأي حال عن إرادة الشعب الفلسطيني.

    نفهم تماماً أن تتم مواجهة المشروع الصهيوني ذو النفوذ العالمي من خلال العمل في البيئة الدولية والمجتمع الدولي لتوسيع دائرة الدعم والتعاطف مع قضية فلسطين، لكننا لا نتفهَّم إطلاقاً أن تطير هذه القيادة بجناح واحد، ولا نتقبل إطلاقاً أن تقود المشروع الوطني الفلسطيني ببيت خَرِب؛ هذا على افتراض أنها ما زالت صالحة للقيادة. بعد 27 عاماً على اتفاقات أوسلو الكارثية، وبعد 27 عاماً من استخدام الكيان الصهيوني لمسار التسوية كغطاء لتهويد الأرض والمقدسات، وبعد أن تمكّن هذا الكيان من تحويل السلطة الفلسطينية إلى سلطة وظيفية تخدم أغراضه، سلطة أهم مبرر لوجودها بالنسبة له هو “التنسيق الأمني” وقمع المقاومة ومطاردة المقاومين، وبعد أن تجاوز الاحتلال أوسلو ومترتباتها، وألغى عملياً حلّ الدولتين ومزّقه، واستعان بالولايات المتحدة لفرض واقع جديد من خلال صفقة ترامب؛ بعد ذلك كله تأتي قيادة السلطة بخطاب سياسي مترافق مع قراراتها تقول فيه إنها ما زالت في “مربع التسوية”، وإنها ما زالت مع حل الدولتين؛ بل وتطمئن “المجتمع الدولي” أنها ملتزمة بمكافحة “الإرهاب” أياً كان شكله؛ ثم تضع بذلك مزيداً من الملح على الجرح فتطمئن الاحتلال أنها لن تسمح بالانتفاضة في مناطق سيطرتها.

    من الناحية العملية فإن مكافحة الإرهاب وفق المفهوم الغربي (المهيمن على البيئة الدولية) في التطبيق الفلسطيني هو محاربة خط المقاومة المسلحة الفلسطينية، وخط الانتفاضة، وخط العودة للثوابت التي تشكلت على أساسها منظمة التحرير.

    وهل يحتاج الصهاينة طمأنة أكثر من هذه الطمأنة ما دام برنامجه في التهويد والضم قائماً على قدم وساق، وما دام اللاعب الفلسطيني “الرسمي” يتولى أعمال الحراسة ويقوم بالمهام القذرة بالنيابة عنهم؟

    فليشتموا وليحتجوا وليصرخوا كما يحبون، فالمجتمع الدولي الذي تراهن عليه السلطة لم يستجب مرة واحدة طوال السبعين عاماً الماضية لآلام الفلسطينيين ومعاناتهم، من خلال فرض إرادته أو قراراته على الكيان الصهيوني. ولدينا أكداس من القرارات الدولية تزيد عن 530 قراراً لم يتم تنفيذ قرار واحد منها.

    وطوال الخمسين عاماً الماضية نحصل على قرارات بدعم حقوقنا بأغلبية تزيد عن الثلثين (معدل 142 دولة من أصل 195 دولة تقريباً) وطوال هذه المدة استمر الكيان الصهيوني “دولة فوق القانون” وكياناً مدعوماً بالطغيان والهيمنة الأمريكية، واستمر في بناء الحقائق على الأرض، بل وتزايدت البلدان التي تسعى لبناء علاقات مع الجانب الإسرائيلي وعدم إغضابه وخصوصاً القوى الكبرى الصاعدة (الصين والهند وروسيا…)، كما زادت البلدان العربية التي تسعى للتطبيع معه، بما يكشف ويعزل العمل الوطني الفلسطيني، ويجعله أكثر صعوبة وضعفاً.

    هل تريد قيادة السلطة مزيداً من التصويتات ومراكمة القرارات؟! لماذا، هل لنحصل على بضعة قرارات جديدة و”لنوسعهم شتماً… وليذهبوا بالإبل”؟
    الجانب الذي يجب أن تدركه قيادة السلطة (ويبدو أنها لا تريد أن تدركه) هو أنه دون ترتيب البيت الفلسطيني، ودون وحدة وطنية فاعلة، ودون تفجير طاقات الشعب الفلسطيني وإمكاناته في مواجهة الاحتلال، فلن تحقق شيئاً وستبوء بالمسؤولية التاريخية عن تضييع ما تبقى من فلسطين.

    فلماذا تتجاهل قيادة السلطة الذهاب باتجاه إعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس حقيقية؟! ربما يمكن اختصار ذلك في أمرين:

    الأول أنها تخشى أنه إذا ما حدثت مشاركة حقيقية للقوى الفلسطينية الفاعلة وتمثيل صحيح لأوزانها الشعبية، فإن هيمنة فتح على المنظمة ستضعف، وسيُعاد بناء المنظمة على أساس برنامج وطني غير متناسب ولا متوافق مع خط القيادة وخط فتح الحالي.

    الثاني أن قيادة المنظمة تخشى أن تتسبب المشاركة القيادية الفاعلة لفصائل المقاومة المحسوبة على “الإسلام السياسي” وتحديداً حماس والجهاد الإسلامي، والمصنفة لدى العديد من الدول الغربية كحركات “إرهابية”، بإضعاف موقف المنظمة في البيئة الدولية، ونزع الاعتراف من المنظمة لدى هذه الدول.

    ولسنا بصدد الخوض كثيراً في التفصيلات، غير أننا نسجل عدداً من النقاط التي نراها مهمة:

    أولها، أن عنصر القوة الأساسي لأي بلد أو قيادة هو شعبها وأمتها، فَبِه تقوى وبه تنهض وبه تفرض احترامها على الآخرين؛ وأن العمل الدولي يأتي مكملاً وموازياً للعمل التحرري المقاوم وليس في مواجهته ولا نقيضاً له. وليس من المعقول أن يكون القبول الدولي مرتهناً بإضعاف البنية الشعبية والدستورية والمؤسساتية للشعب الفلسطيني.

    ثانيها، أن أولى أولويات حركات التحرير وحركات المقاومة عندما تقوم تكون في استخراج واستجماع أفضل ما لدى شعوبها من طاقات وإمكانات ومن عناصر قوة، بحيث تنظمها في إطار مؤسسي ثوري، يتمكن بعد ذلك من فرض نفسه فرضاً على العدو وعلى البيئة الدولية التي لا تحترم القضايا العادلة إلا رافقتها لغة القوة.

    ثالثها، حسب الدراسة التي قام بها أ.د. وليد عبد الحي للسلوك الدولي في التصويت لقضية فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة في السنوات الثلاثين الماضية، فإن منحنى التصويت كان يرتفع لصالح فلسطين عندما تزداد عمليات المقاومة وفي أجواء الانتفاضات والصدام مع العدو الصهيوني، وكان المنحنى ينخفض في بيئات المفاوضات والتطبيع وإسكات صوت المقاومة.

    ورابعها، أنه طوال الـ 27 عاماً الماضية سعت قيادة المنظمة والسلطة لإقناع الطرف الإسرائيلي والطرف الأمريكي والأطراف الدولية بـ”حسن سلوكها”، دون أن ينعكس ذلك إيجاباً من قِبَلهم على الأرض. ونفذت استحقاقات ضرب المقاومة، ومنع قواها من المشاركة في صناعة القرار الفلسطيني، وعاقبت قطاع غزة، وألغت المجلس التشريعي الذي تسيطر عليه حماس، واستخدمت المال السياسي للضغط على الجبهتين الشعبية والديموقراطية حتى وجدت نفسها تقف الآن على أنقاض بيت فلسطيني مُحطّم. ومع ذلك فإن الصهاينة والأمريكان لم يتعاملوا معها إلا كأداة تقوم بوظيفتها ولا تستحق الاحترام والاعتبار.

    نحن أمام ظرف تاريخي كبير لم يعد يتحمل العبث ولا المناورات السياسية الداخلية، وبحاجة إلى قرارات على مستوى المرحلة، وإلى ارتقاء القيادات إلى مستوى التحدي ومستوى تضحيات الشعب الفلسطيني وتطلعات أمتنا العربية والإسلامية. وبالتالي، فعلى قيادة المنظمة والسلطة وفتح، أن تدرك أنها أمام استحقاق تاريخي جديد (وطوال تاريخنا نحن أمام استحقاقات كبيرة)، وأن الأمر لم يعد مرتبطاً بحسابات فصائلية ضيقة، وأنه آن الأوان كإجراءات مستعجلة ممكنة دعوة الإطار القيادي الموحد للاجتماع، وإنهاء التنسيق الأمني، ورفع العقوبات عن القطاع، وإطلاق الحريات في الضفة الغربية.

    وبناء ذلك يتم السعي لتوحيد الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج تحت برنامج وطني قائم على الثوابت، وعلى إطلاق الانتفاضة بكافة أشكالها في الداخل الفلسطيني، وعلى الالتحام مع أمتنا العربية والإسلامية في مشروع نهضوي يسعى لتحرير فلسطين وإلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني.

  • مقال: ”أوسلو“: كيف تحول الاحتلال الإسرائيلي إلى احتلال خمس نجوم

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    لعل اتفاق أوسلو الذي عقد بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الإسرائيلي، يُسجل في التاريخ الحديث والمعاصر كأسوأ اتفاق يمكن أن يُعقد بين ممثلي شعب، تحت الاحتلال وبين قوة احتلال استعمارية.

    26 عاماً مضت على اتفاق أوسلو، كان المفاوض الفلسطيني يظن أنه سيكون مدخلاً لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة، لكنه وجد نفسه ينشئ سلطة حكم ذاتي توفر الغطاء لاحتلال “خمس نجوم”، تابع مشاريع التهويد والاستيطان ليقضي على حلم “حلّ الدولتين”، وليبقى على سلطة فلسطينية وظيفية تخدم أغراض الاحتلال، أكثر مما تخدم أهداف الشعب الفلسطيني.

    إنها الورطة التي تحدث عنها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد حين قال إن عرفات “ورط شعبه بمصيدة لا مخرج منها”، وأنه ألقى بنفسه بين الإسرائيليين والأمريكيين. (جريدة الحياة، 21/8/1995).

    نختار في هذا المقال خمس وقفات مع تجربة أوسلو:

    أولاً: ضرب وتقزيم المشروع الوطني الفلسطيني:

    من أسوأ ما في هذا الاتفاق أن قيادة منظمة التحرير قدمت تنازلاً تاريخياً باعترافها بـ”حق إسرائيل في الوجود” وشرعية احتلالها لـ 77% من أرض فلسطين. وبالتالي أخرجت الأرض المحتلة سنة 1948 من دائرة الصراع والتفاوض. وفي المقابل لم تعترف “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني بما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة)، ولا يوجد في الاتفاق ما يشير إلى الضفة والقطاع كأراضٍ محتلة، ولا يوجد أي تعهد إسرائيلي بالانسحاب منها؛ ولا يوجد أي إشارة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، أو إقامة دولته المستقلة ولو على جزء من فلسطين.

    أدى هذا الاتفاق إلى تقزيم المشروع الوطني الذي يهدف إلى تحرير فلسطين، وحصره في إنشاء سلطة حكم ذاتي، وتسعى لإقامة دولة في الضفة والقطاع، غير أن بقاءها وتطورها مرتبطٌ برضا الاحتلال وبإرادة الاحتلال. وبدا أن القيادة الفلسطينية تعاملت مع الاحتلال وكأنه “جمعية خيرية” تسعى بحسن نية للاستجابة لمطالب الشعب الفلسطيني. مع أن المُدْرَك الرئيسي للاحتلال الصهيوني أنه استعماري إحلالي توسعي عدواني، ينازعك على هوية الأرض والإنسان، ويسعى لسرقة التاريخ، كما يسعى لسرقة المستقبل.

    وعندما تشكّل الكيان الفلسطيني تحت الاحتلال؛ أصبحت “إسرائيل” عملياً هي “الحاضر الغائب” في قرار القيادة الفلسطينية؛ بينما انشغلت السلطة الفلسطينية بإدارة “الحياة تحت الاحتلال”، وليس بـ”إدارة إنهاء الاحتلال”.

    هذا التقزيم أدى إلى غياب فلسطينيي الخارج عن أجندة القيادة الفلسطينية، والذين يشكلون نحو نصف الشعب الفلسطيني، فتراجع الاهتمام بهم، بالرغم من الإمكانات الهائلة التي يمتلكونها.

    ومن ناحية ثالثة فإن منظمة التحرير نفسها انزوت جانباً، وتحولت إلى ما هو أشبه بدائرة من دوائر السلطة الفلسطينية، ووُضعت في “غرفة الإنعاش”، ليتم استخدامها بين حين وآخر لشرعنة ممارسات القيادة الفلسطينية.

    ثانياً: تسوية “مقلوبة”:

    هذا الاتفاق من التسويات النادرة في التاريخ الاستعماري الذي لا تحسم فيه القضايا الأساسية، وتترك لعملية تفاوضية لاحقة. فعادة ما يتم أولاً حسم القضايا المرتبطة بانسحاب الاستعمار، والاستقلال وحق تقرير المصير، والسيادة. غير أن كارثة أوسلو أنها انشغلت بتفاصيل وجزئيات الحكم الذاتي، ولم تحسم القضايا الكبرى مثل: مستقبل القدس، مستقبل اللاجئين وحق العودة، مستقبل المستوطنات الصهيونية في الضفة والقطاع، حق تقرير المصير وحدود الدولة الفلسطينية، واستغلال الثروات الطبيعية وخصوصاً المياه.

    وفي الوقت نفسه، ألزمت الاتفاقية الطرف الفلسطيني بوقف كافة أشكال المقاومة المسلحة، وحل كافة مشاكله ومتابعة مفاوضاته من خلال الوسائل السلمية فقط. وهكذا تحوّل المشروع الوطني الفلسطيني إلى مشروع بلا أظافر ولا أسنان، وافتقد أي وسيلة من وسائل الضغط التي تجعل الاحتلال مكلفاً وعديم الجدوى. ولأن الاتفاق أخرج مرجعية الأمم المتحدة والقرارات الدولية، ولم يتضمن أي آلية (دولية) ملزمة لتنفيذ الاتفاق؛ فقد أصبح مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني مرتهناً بالإرادة الإسرائيلية، وبالراعي الأمريكي “ومن استرعى الذئب فقد ظلم”!!

    وهكذا، اكتسب الجانب الإسرائيلي مزايا إمكانية التسويف والتأجيل إلى “ما لا نهاية”. واستمتع بـ”إدارة” ملف التسوية، في الوقت الذي ينشئ فيه الحقائق على الأرض ليتمكن من حسم القضايا الجوهرية، لصالحه في نهاية الأمر.

    ثالثاً: التأسيس للانقسام الفلسطيني:

    هذا الاتفاق أسس لأكبر انقسام في التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر، وما زالت آثاره العميقة قائمة حتى الآن. إذ استفرد فصيل فلسطيني (حركة فتح) بقرار مصيري، يتضمن تنازلاً تاريخياً عن معظم فلسطين، ويؤسس لتسوية سلمية مع العدو. وكان ذلك دون العودة للشعب الفلسطيني، ودون التوافق مع قواه الوطنية الأساسية، وحتى بمعارضة قوية من داخل فتح نفسها!!

    شكلت قوى المقاومة التي رفضت الاتفاق تحالف “الفصائل العشر” مثَّل على الأرض تكتلاً شعبياً وسياسياً قوياً واسعاً على الساحة الفلسطينية؛ وتابع مسار المقاومة، وأصبحت السلطة الفلسطينية بالنسبة له عملياً عقبة في طريق المقاومة المسلحة. أما قيادة المنظمة والسلطة فكانت ترى في “أوسلو” طوق النجاة، وخريطة الطريق لإنشاء الدولة الفلسطينية. ولأنها ملتزمة بالوسائل السلمية، فقد رأت في المقاومة المسلحة إفساداً وتخريباً للحلم الفلسطيني بالدولة المستقلة، ومعوّقاً يجب إسكاته وتحييده. وبالتالي قامت بقمع المقاومة ومطاردتها، ونسقت أمنياً مع الاحتلال ضدها.

    ومنذ ذلك الوقت تكرس الخلل في إدارة الأولويات والمسارات بين خطي التسوية والمقاومة، وما حدث من انقسام سنة 2007 أدى لسيطرة حماس على القطاع وفتح على الضفة، لم يكن إلا أحد تجليات الانقسام الأساس الناتج عن اتفاق أوسلو.

    رابعاً: توسّع تهويدي واستيطاني:

    كان من المفترض لأي اتفاقات تؤسس لاستقلال دولة، ولانسحاب المستعمر، أن تؤدي لتفكيك المستوطنات اليهودية وانسحاب المستوطنين. غير أن اتفاقات أوسلو لم تلزم الطرف الإسرائيلي بذلك، ولم تُشر حتى لوقف بناء المستوطنات. وبالتالي تابع الطرف الإسرائيلي هجومه الاستيطاني بطريقة أكثر كثافة وأكثر بشاعة، وأخذ يسابق الزمن لمصادرة ما يمكن مصادرته من أرض وحصر الفلسطينيين في “معازل” و”بانتوستانات” خاصة. فغيَّر الاحتلال وجه القدس، وبنى جداره العنصري، وأصبحت مستوطناته نحو 200 مستوطنة، ونحو 220 بؤرة استيطانية أخرى، وتضاعف عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية من نحو 280 ألفاً إلى أكثر من 800 ألف في مطلع سنة 2019. لتجد القيادة الفلسطينية أن “حلّ الدولتين” فقد عملياً معناه، وأن سلطتها كان أداة “غبية” بيد الكيان الإسرائيلي لإسكات الصوت الفلسطيني والعربي والدولي بحجة وجود مسار للتسوية، وأنها كانت وسيلة “ساذجة” استخدمت لتقطيع الزمن، بما يخدم الجانب الإسرائيلي، في إنشاء الحقائق على الأرض وابتلاع الضفة الغربية.

    خامساً: سلطة فلسطينية هشة:

    تشكَّل البناء المؤسسي للسلطة الفلسطينية وفق نظام ومنظومة “مُعدَّة للفشل”!! بمعنى أنها لا تملك الحد الأدنى للنجاح للتطور باتجاه بناء الدولة الفلسطينية المستقلة.

    فهذه السلطة عانت من هيمنة سياسية وسيادية للاحتلال الذي يتحكم بالحدود، وبمداخل السلطة ومخارجها، وبحركة الأفراد براً وبحراً وجواً، والذي يتمتع بالقدرة الهائلة على تعطيل العمل والحياة اليومية، وبالقدرة على ضرب البنى التحتية.

    وهي سلطة أسست لفشل اقتصادي من خلال كارثة “بروتوكول باريس”. ودونما إطالة فقد تم تأسيس سلطة زبائنية استهلاكية ينخرها الفساد، ولا تملك رؤية للانفصال عن الاحتلال، ونحو 80% من إيراداتها تأتي من إما من الضرائب (إيرادات المقاصة) التي تجمعها سلطات الاحتلال، أو من الدعم والمساعدات الخارجية؛ ونحو 85% من واردات السلطة تأتي من “إسرائيل”، بينما يذهب نحو ثلثي صادراتها إلى “إسرائيل”، والصادرات والواردات محكومة بإرادة الاحتلال؛ ومعدل دخل الفرد الفلسطيني أقل من عُشر دخل الفرد الإسرائيلي…

    وهي سلطة هشة أمنياً فالاحتلال “يسرح ويمرح” كما يشاء، فيحاصر ويقتحم ويعتقل ويسجن ويغتال، ويمنع من السفر أو من الدخول كما يشاء؛ وهو يحمي المستوطنين المعربدين في أحشاء السلطة، ويوفر الغطاء للعملاء، ولديه نحو ستمائة حاجز ثابت ومتحرك في الضفة.

    وهي سلطة منهكة وظيفياً في خدمة الاحتلال، من خلال التنسيق الأمني الذي ما زال “مقدساً” لدى الرئيس عباس؛ ومن خلال الأجهزة الأمنية التي تستهلك مبالغ هائلة من ميزانية السلطة توازي نحو سبعة أضعاف المعدل العالمي للميزانيات الأمنية في البلدان الأخرى.

    ***

    وأخيراً، أليست اتفاقات أوسلو، بعد ذلك كله “لعنة” على الشعب الفلسطيني وعلى مشروعه الوطني… ألم يصبح الانفكاك منها وعنها أولوية وطنية عاجلة، لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس جديدة.

    المصدر: موقع ”TRT“ تي آر تي (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية) – تركيا، 25/9/2019