• الانتخابات الفلسطينية.... تحديات وفرص

    أحمد عطاونة

    يحتدم النقاش في الساحة الفلسطينية حول الانتخابات التشريعية والرئاسية، لا سيما بعد أن أعلنت كافة الفصائل الفلسطينية في غزة وفي مقدمتها حركة حماس الموافقة على عقد الانتخابات وفقا لرؤية الرئيس محمود عباس القائمة على إجرائها على أساس قانون التمثيل النسبي الكامل، الذي يعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة دائرة انتخابية واحدة، وكذلك عدم التزامن بين التشريعية والرئاسية بحيث يفصل بينهما ثلاثة أشهر أو أكثر. ومما يرفع من سقف التوقعات بإجراء هذه الانتخابات و يوحي بأن فرصة جدية تلوح في الأفق، كثرة الحديث عن ضغوط دولية، وبالذات أوروبية، تمارس على السلطة، في ظل فراغ دستوري نجم عن قرار السيد أبو مازن حل المجلس التشريعي، وعجز فصائلي عن الخروج من المأزق الوطني القائم، بالإضافة الى أن صحة الرئيس "الثمانيني"، الذي بات بيده كل السلطات والصلاحيات وهو رئيس كل المؤسسات السياسية، محل نقاش ما أن يخفت حتى يعود من جديد، واذا ما تزامن ذلك مع فشل رهانات مختلف الأطراف الفلسطينية على التغير في المنطقة العربية، سواء لصالح الربيع العربي أو الثورات المضادة، وبما يخدم صراعها البيني، فإن الأمل يزداد بجدية هذه الخطوة وبلوغها منتهاها.

    "فمن يشارك في الانتخابات يدرك أنه يجب أن يتخلى عن السلطة إذا ما قادت إرادة الناخبين الى ذلك، وإلا فلا مبرر للمشاركة فيها أو الدفع باتجاه عقدها"

    رغم ذلك، يثير كثيرون وهم محقون، الكثير من التساؤلات حول إمكانية إجراء الانتخابات، وكيف لها أن تتم في بيئة سياسية يسودها انعدام الثقة بين الأطراف والعجز عن تطبيق أي من التفاهمات التي وقعت بين الفصائل، وغياب سلطة القانون، وفقدان الحريات في ظل سيطرة وسطوة الأجهزة الأمنية، التي باتت الحاكم الفعلي للأراضي الفلسطينية والمتحكم في تفاصيل حياة الناس، وفي ظل الأزمات الداخلية التي تعاني منها الفصائل، لا سيما حركة فتح، التي يشكل تيار القيادي المفصول من الحركة محمد دحلان أحد التحديات الرئيسة التي تواجهها، وقبل كل ذلك التحديات الناجمة عن الاحتلال وقدرته على التأثير بشكل فعال في الانتخابات وبالذات في الضفة الغربية وخاصة في مدينة القدس. وأخيرا مدى جدية الأطراف المختلفة في التنازل عما بين أيديها من سلطات إذا ما خسرت الانتخابات، أو عجزت عن تشكيل تحالفات تضمن بقاءها في السلطة، فمن يشارك في الانتخابات يدرك أنه يجب أن يتخلى عن السلطة إذا ما قادت إرادة الناخبين الى ذلك، وإلا فلا مبرر للمشاركة فيها أو الدفع باتجاه عقدها.

    النظر في هذه التخوفات والتساؤلات ينبغي أن يكون في سياق نظرة شاملة للمشهد الفلسطيني ومن كافة الزوايا، وبنظرة سريعة على الواقع السياسي الدولي والإقليمي، نجد أن موقع القضية الفلسطينية قد تراجع كثيرا، ولم تعد القضية الفلسطينية أولوية عند عدد كبير من القوى الدولية والإقليمية، وحتى العربية، فقد نتج عن موجة الربيع العربي، وموجة الردة عنها عبر الثورات المضادة، مجموعة من القضايا السياسية والوطنية والقومية، ولم تعد فلسطين قضية المنطقة الوحيدة، فلدينا القضية العراقية واليمينة والسورية والليبية، وهي قضايا شائكة ومعقدة تتداخل فيها الأدوار الدولية والإقليمية والدينية والسياسية والطائفية والقومية...الخ، مما يجعل التنبؤ بموعد انتهائها أمرا غاية في الصعوبة، خصوصا وأن هذه القضايا المتفجرة مركزها مجموعة من أهم الدول التي عرفت تاريخيا بدعمها للقضية الفلسطينية.

    يتزامن هذا التراجع في الموقع الدولي والإقليمي للقضية مع أزمة  غير مسبوقة في البرامج السياسية والوطنية وغياب للرؤية تعاني منها الفصائل والقوى الفلسطينية، ما جعل الفلسطينيين يعيشون متاهة لا يبدو لها مخرج في المدى المنظور، وقد قاد ذلك إلى حالة جمود سياسي ووطني لا تؤدي الا لمزيد من التدهور في الحالة الوطنية، وبدا الانقسام وكأنه قدر الفلسطينيين الذي لا يستطيعون الخلاص منه، وظهر الجميع عاجزا أمام التيارات المستفيدة منه، وباتت لقاءات المصالحة التي لا يترتب عليها أي تغيير إيجابي على الأرض محل نقد شديد، بل وتهكم في بعض الأحيان، من قبل غالبية الشعب الفلسطيني.

    "وفي ظل الانغلاق القائم وعجز آليات مختلفة عن التغيير في الوضع القائم والتخلص من الانقسام، قد تشكل الانتخابات التشريعية والرئاسية مدخلا ممكنا للتغير"

    هذا الفشل الوطني في الوصول إلى صيغ قابلة للتطبيق، وغياب الإرادة أو القدرة على تطبيق ما يتفق عليه من تفاهمات وطنية، أدى الى حالة ركود وطني قاتل، ففي مقابل العجز الفلسطيني عن الفعل، على أكثر من صعيد، يستمر الاحتلال في فرض الوقائع على الأرض، مستندا الى ضعفنا ودعم دولي منحاز يشجعه على الاستمرار في التغول على الحقوق الفلسطينية، فنقل السفارة الصهيونية الى القدس، والاعتراف بها عاصمة للكيان ،وضم الجولان السوري المحتل، والحديث عن ضم معظم أراضي الضفة الغربية، كل ذلك حدث في ظل عجز فلسطيني، لا بد من العمل على التحرر منه، والتغلب على العوامل التي أوصلتنا إليه، فالانتظار لا يخدم إلا الاحتلال. بينما التغير في المشهد السياسي الفلسطيني والبنية السياسية والمؤسساتية متطلب أساسي للتغلب على هذه الحالة من العجز، وفي ظل الانغلاق القائم وعجز آليات مختلفة عن التغيير في الوضع القائم والتخلص من الانقسام، قد تشكل الانتخابات التشريعية والرئاسية مدخلا ممكنا للتغير، عدا عن كونها مسارا طبيعيا وصحيا، وذلك للاعتبارات الآتية:

    أولا: الانتخابات حق أصيل للشعب الفلسطيني، وكما أن الشعب الفلسطيني، كان ولا زال، هو صمام الأمان في الحفاظ على القضية الوطنية وحامي ثوابتها ، فمن حقه أن يقول كلمته ويعبر عن إرادته تجاه الأزمة القائمة.

    ثانيا: عدم قدرة الفصائل الفلسطينية، لاعتبارات ذاتية وموضوعية، على التوافق والعمل ضمن المشترك الوطني الممكن، والاستمرار في حالة المناكفة غير المسؤولة وعلى حساب الوطن والمواطن، مما يؤكد ضرورة إعادة القرار الى صاحبه الشرعي وهو الشعب الفلسطيني.

    ثالثا: افتقار كل المؤسسات السياسية القائمة إلى الشرعية الشعبية، وبالتالي الدستورية، فقد انتهت فترة شرعيتها منذ سنوات، الأمر الذي يعني أن السلطات القائمة تتصرف وفق شرعية مدعاة، تجعلها ضعيفة أمام أي تحد جدي، فهي ضعيفة أمام المجتمع الدولي وأمام دول الإقليم وقبل ذلك أمام الشعب الفلسطيني.

    رابعا: فساد المؤسسات السياسية الحكومية والوطنية، فمؤسساتنا السياسية ليست فقط نموذجا للأنظمة الشمولية الفاسدة التي تغيب عنها التعددية والشفافية، بل هي أقرب إلى الدولة الفاشلة، حيث يتصرف كل حزب يسيطر على مؤسسة وفق هواه الحزبي وبما تمليه عليه مصالح حزبه، بعيدا عن المصالح الوطنية الكلية ودون اعتبار لعامة الناس ما يشعر قطاعات كبيرة من شعبنا بحالة اغتراب في بلدهم، ويزيد المشهد عبثا أن كل ذلك يتم في ظل الاحتلال وتحت سقفه.

    خامسا: ضعف النخبة السياسية وعجزها، وهذا أمر لا يحتاج لتفصيل لأن كل ما يمكن أن يقال في الحالة الفلسطينية مرتبط بهذه الفئة وأدائها.

    سادسا: ضعف الثقة بالأحزاب والنخب السياسية، وهو ما يظهره سلوك الناس في الميدان، بالإضافة لكثير من الدراسات واستطلاعات الرأي، وقد ترتب على ذلك، وعلى غيره من العوامل، ظهور مؤشرات على لامبالاة شعبية غير مسبوقة، حتى تجاه بعض القضايا ذات الحساسية الوطنية الكبيرة، كالشهداء والأسرى والاقدس والاستيطان وغيرها.

    بالرغم من كل ما سبق ذكره، يطرح الكثير من الكتاب والمثقفين والمتابعين للشأن الفلسطيني جملة من المحاذير والتحديات التي تجعلهم يتشككون في جدية وجدوى هذه الخطوة. ومن أهم هذه المحاذير مدى القدرة على إجرائها في مدينة القدس والآليات التي ستتم بها، وكذلك وجود المحكمة الدستورية، التي يعتبرها غالبية الفلسطينيون (مؤسسات وفصائل ومختصون) غير شرعية وغير قانونية، وتشكل أداة بيد الرئيس يمكن أن يستخدمها متى شاء وكيفما شاء، بالإضافة إلى عدم وجود ضمانات محلية أو دولية لاحترام نتائج الانتخابات فضلا عن ضمان نزاهتها وتوفير البيئة المناسبة لإجرائها بالذات الحرية في التجمع والتعبير عن الرأي وضرورة لجم الأجهزة الأمنية التي باتت تتدخل في كل تفاصيل حياة الناس.

    كل هذه التخوفات والتحديات الموضوعية، لا ينبغي أن تحول دون إجراء الانتخابات، لأن ما يترتب عليها من إشكاليات لا يمكن أن يقارن بمخاطر استمرار الوضع القائم، ولأن التغلب عليها والنضال من أجل تذليلها أمر ممكن، إذا وجدت الإرادة اللازمة، فعلى كل القوى والشخصيات التي تنوي خوض غمار هذه الانتخابات العمل متحدة لمواجهة هذه التحديات، وبالذات فيما يتعلق بالانتخابات في مدينة القدس، التي لا يمكن إجراء انتخابات بدونها، وفي ذات الوقت لا ينبغي التسليم بان قرارها بيد الاحتلال ولعل هذه فرصة لتحدي الاحتلال وكل إجراءاته الباطلة في المدينة. ومما يجعل النضال من أجل تجاوز هذه التحديات أمرا لا مفر منه، أنها ستبقى قائمة دائما ولا يعول على عامل الزمن في حلها، بل إنها تزداد صعوبة وخطرا كلما تأخر الوقت.

    أخيرا، فإن التوافق الوطني والعمل المشترك، هو الخيار الأنسب دوما وهو رغبة غالبية الشعب الفلسطيني، التي ظهرت في معظم استطلاعات الرأي، لكن الانتخابات التي تحمل في ثناياها بعض المخاطر تبقى أفضل بكثير من الواقع القائم الذي تخسر فيه القضية الوطنية وفصائل العمل الوطني كل يوم من رصيدها السياسي والمعنوي. وأعتقد أن أحدا لا يمكنه تقديم مخرج آمن تماما لأنهاء هذه الحالة السياسية المأساوية التي يعاني منها الفلسطينيين، فلا يوجد مخرج دون مخاطر وتحديات وهو ما يوجب على الفصائل أن تتهيأ للتعامل معها لا أن تستمر في الهروب إلى الامام.

     

  • التقرير الإستراتيجي لشهر كانون الأول/ديسمبر 2019

    حمل شهر كانونأول/ديسمبر 2019، مجموعةً من التطورات على الساحة الفلسطينية، وتتعلق الأحداث بشكل أساسي حول العملية الانتخابية في ظل موافقة جميع الفصائل، إلى جانب قرار الاحتلال بخصم مستحقات جديدة من أموال المقاصة عقاباً على استمرار صرف مستحقات الأسرى والشهداء، كما شهد المجتمع الفلسطيني خلافا حول المستشفى الميداني الأمريكي في قطاع غزة.

    وعلى صعيد الكيان الإسرائيلي فهناك مجموعة من الأحداث التي تسارعت خاصة بعد فشل تشكيل حكومة جديدة والتوجه لانتخابات ثالثة، إلى جانب توجيه تهمٍ بالفساد لرئيس وزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وطلبه للحصانة البرلمانية، علاوة على فوزه مجددا بزعامة حزب الليكود.

  • تقدير موقف حول فرص إجراء الانتخابات الفلسطينية

    مقدمة

    في ظل الانقسام السياسي الحاد، الذي تشهده الساحة الفلسطينية، وفشل سبل المصالحة الداخلية، وفي ظل مرور القضية الفلسطينية بأخطر مراحلها، ومحاولة تصفيتها من خلال ما بات يعرف بصفقة القرن، أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خلال خطابه في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر2019، عن عزمه عقد انتخابات فلسطينية عامة، في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس، حال عودته. ومع أن استخدام تعبير”الانتخابات العامة”، يوحي أنه يشمل الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني، إلا أن ما تم توضيحه لاحقا، هو أن الرئيس كان يقصد الانتخابات التشريعية والرئاسية. وقد قوبل هذا الخطاب بموافقة حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، على المشاركة في الانتخابات، مع تأكيدهم على أهمية إجراء الانتخابات الوطنية بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية. ومنذ إعلان الرئيس عباس، وحتى إعداد هذا التقدير، يسود المشهد السياسي نقاشٌ حول مدى جدية الدعوة، وملاءمة الظروف الموضوعية والذاتية، وإمكانية وجود فرصة حقيقية لإجراء الانتخابات.

    خلفيات الدعوة للانتخابات

    بعد إقدام السلطة الفلسطينية على سلسلة إجراءات عقابية ضد غزة، أعلن المجلس التشريعي في غزة، وعلى لسان نائب رئيس المجلس د. أحمد بحر، عدم شرعية الرئيس عباس كرئيس للسلطة الفلسطينية، وفقدان تمثيله للشعب الفلسطيني. هذا الموقف الصادر عن المجلس التشريعي في غزة، جاء قبل يوم واحد من خطاب الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 26 أيلول/ سبتمبر 2018. وقد ذكر د. أحمد بحر، أن “عباس” يعتلي منبر الأمم المتحدة دون أي شرعية قانونية، أو دستورية، أو وطنية، ولا يمثل شعبنا، وإنما يمثل نفسه فقط، مؤكدا “أن من يجوّع شعبنا، وينسق مع الاحتلال، ويصر على نزع سلاح المقاومة، ويفرط بدماء الشهداء وعذابات الأسرى، ويعترف بدولة الاحتلال، ويتنازل عن حق العودة، لا يمكن أن يمثل شعبنا”. بعد ثلاثة شهور تقريبا من هذا الإعلان، أقرت المحكمة الدستورية والتي شكلها الرئيس عباس، قرار بحل المجلس التشريعي وذلك في نهاية شهر كانون أول/ ديسبمر 2018.

    خلَقَ حل المجلس التشريعي حالة من الفراغ القانوني، وعزز مركزية السلطة بشكل أكبر بيد الرئيس عباس. وقد تجسد ذلك مرة أخرى عند تكليفه الدكتور محمد اشتية بتشكيل حكومة فلسطينية جديدة، بعد إقالة حكومة الدكتور رامي الحمد الله، ورفْض حركة حماس وبعض الفصائل الفلسطينية الأخرى، هذه الخطوات، واعتبارها تجاوزا للقانون الفلسطيني.

    ينص القانون الأساسي الفلسطيني على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية كل 4 سنوات. ومع ذلك، فإن آخر انتخابات رئاسية كانت قد أُجريت عام 2005، وآخر انتخابات تشريعية عام 2006. وبالتالي، فإن كلا من الرئيس محمود عباس والمجلس التشريعي، يواجهون أزمة حقيقية أمام الشعب الفلسطيني والمجتمع الدولي، حول عدم تجديد شرعيتهم الانتخابية.

    فتحاويا، يواجه الرئيس عباس تحديًا حقيقيًا في كيفية إدارة القوى المنافسة له داخليا. ففي قطاع غزة، تزداد قوة محمد دحلان بشكل مستمر، خاصة بعد اصطفاف عدد من القيادات الفتحاوية المعروفة، وأعضاء من المجلس التشريعي عن حركة فتح في غزة، مثل سمير المشهراوي، وسفيان أبو زايدة، وهشام عبد الرازق معه. وتشير تقديرات بعض المحللين، إلى أن تيار دحلان، يمكنه أن يستحوذ على نسبة معتبرة من كتلة فتح الانتخابية، في حال إجراء أي انتخابات قادمة، ومشاركة التيار فيها.

    وفي الضفة الغربية، يواجه الرئيس عباس تحدي الخلاف مع القيادي الأسير مروان البرغوثي، وتياره الذي برز بشكل واضح أثناء الإضراب عن الطعام “إضراب الكرامة”، الذي خاضه الأسرى في سجون الاحتلال عام 2017، والذي قاده البرغوثي خلافا لرغبة السلطة.

    تأتي هذه التحديات الداخلية الفتحاوية، في ظل تزايد احتمال غياب عباس عن المشهد، سواء لأسباب صحية، أو لتقدمه في العمر. الأمر الذي قد يوحي بقناعة الأطراف الفتحاوية المختلفة، بأهمية تشكيل تكتلات جديدة، لسد الفراغ في حال غياب عباس عن المشهد السياسي الفلسطيني، والأمر ذاته يدفع الرئيس عباس لإعادة ترتيب البيت الفتحاوي، لتعزيز استقرار الحركة من بعده.

    كذلك تأتي دعوة محمود عباس بعد إجراء الانتخابات الإسرائيلية للمرة الثانية، وعدم قدرة أي من الأطراف على تشكيل الحكومة الجديدة، الأمر الذي يعزز إمكانية الذهاب لانتخابات إسرائيلية ثالثة. في هذا السياق، يمكن القول إن عدم الاستقرار الإسرائيلي الداخلي، يربك المشهد الفلسطيني باستمرار، خاصة بعد عزم نتنياهو، كما أعلن في دعايته الانتخابية، على ضم أراضي الأغوار الشمالية والمرتفعات الاستيطانية، لسيادة الاحتلال الإسرائيلي. الأمر الذي يؤكد مرة أخرى على موت مسار أوسلو، ووضع قيادة منظمة التحرير أمام انسداد سياسي كبير. وقد ظهر نتنياهو أكثر جدية في موضوع ضم الأغوار الشمالية، حينما أعلن عن ذلك بتاريخ 20 أيلول/ سبتمبر الماضي، بعد يوم واحد من إعلان وزير الخارجية الأمريكية أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، لا تتعارض مع مبادئ القانون الدولي. 

    في قطاع غزة، تتدهور الحالة الإنسانية بسبب استمرار الحصار المفروض منذ أكثر من 12 عاما، وتستمر حركة حماس في حكم غزة في ظل ظروف اقتصادية خانقة. فطبقاً للجهاز المركزي للاحصاء الفلسطيني، وصلت نسبة البطالة إلى ما يقارب 55%، ونسبة من يقبعون تحت خط الفقر ما يقارب الـ 34%. مسيرات العودة ما زالت مستمرة، وعدد الشهداء في تزايد مستمر أيضا، إذ ارتقى حتى الآن 350 شهيدا منذ بدء مسيرات العودة، في حين أصيب ما يقارب 19 ألف فلسطيني وفقاً لمركز الميزان لحقوق الإنسان. ظرف غزة المعقد يدفع حركة حماس للبحث عن أي مخرج سياسي لتخفيف عبئ الحصار، الأمر الذي قد يجعل إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية بداية لذلك بالنسبة لحماس.

    الأطراف الفاعلة: الدوافع والمصالح

    هناك ثلاثة أطراف فاعلة بشكل مباشر في موضوع الانتخابات الفلسطينية، هي حركة فتح، وحركة حماس، و”إسرائيل”. أما الأطراف ذات التأثير غير المباشر، فهي المجتمع الدولي، والإدارة الأمريكية.

    يمكن التنبؤ بالأهداف التي تسعى حركة فتح إلى تحقيقها من خلال الانتخابات في هذه المرحلة الحرجة، وبناء على السياقات المذكورة أعلاه وهي:

    1. إعادة ترتيب شكل التواجد الفتحاوي في الجسم التشريعي الفلسطيني ، بما يضمن إضعاف التيارات المنافسة لمحمود عباس، أي دحلان في غزة والبرغوثي في الضفة، وبالتالي الحفاظ على استقرار حركة فتح.
    2. تجديد الشرعية الانتخابية، الرئاسية والتشريعية، محليا وإقليميا ودوليا.
    3. تحقيق عدة مصالح حزبية في ظل وجود أبو مازن، والتي قد يصعب الحفاظ عليها بعده، مثل الاستمرار في السيطرة على السلطة ومكتسباتها.
    4. البحث عن مخرج للمسار السياسي المأزوم مع الاحتلال الإسرائيلي.
    5. إضعاف الخصم السياسي الفلسطيني، أي حركة حماس، أو جرها لبرنامج أبو مازن السياسي.

    أما الأهداف التي تسعى حركة حماس إلى تحقيقها من إجراء الانتخابات في هذه المرحلة، فيمكن تلخيصها في النقاط التالية:

    1. تخفيف الحصار عن قطاع غزة، من خلال الحكومة المنبثقة عن التشريعي الجديد، حتى لو كان ثمن ذلك تخلي حماس عن الحكم في القطاع.
    2. الرغبة في تجديد شرعيتها محليا وإقليميا ودوليا، لدفع جميع الأطراف لقبول حماس كفاعل مهم، والتفكير بالتعامل معه.
    3. حلحلة الواقع المعقد لها في الضفة الغربية، وإيجاد منصات عمل سياسي وجماهيري، تعيد لها الاعتبار والحضور. والتغلب على بعض العقبات بالذات المرتبطة بالسلطة.
    4. إضعاف الخصم السياسي الفلسطيني “حركة فتح”، وإضعاف مسار التسوية.
    5. التمهيد للدخول في منظمة التحرير كلاعب مؤثر.

    أما الاحتلال، فإن مصلحته تكمن في عدم إجراء الانتخابات الفلسطينية، وهو بذلك يرمي إلى تحقيق الأهداف التالية:

    1. استمرار الانقسام الفلسطيني الداخلي، لما في ذلك من مصلحة استراتيجية كبيرة للاحتلال.
    2. الاستمرار في التمدد الاستيطاني على أراضي الضفة الغربية.
    3. إنهاء الحالة السياسية الوطنية في القدس.
    4. ضمان الاستقرار الأمني، سواء في الضفة الغربية أو الداخل المحتل.

    أما المجتمع الدولي، ومع أن الشرعية الانتخابية الفلسطينية تبدو مهمة له؛ لتعزيز مسار حل الدولتين ودعمه، إلا أنه كان قد رفض التعامل مع ما أفرزته انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، التي حصلت فيها حركة حماس على الأغلبية، وفي المقابل استمر في التعامل مع محمود عباس كرئيس للسلطة الفلسطينية، حتى بعد انتهاء فترة ولايته عام 2009. الأمر الذي يعزز فكرة أن المجتمع الدولي معني بالدرجة الأولى بتعزيز مسار حل الدولتين، لكنه لن يهتم كثيرا بالشرعية التي تفرزها الانتخابات.

    وبخصوص الموقف الأمريكي، يبدو أن مصالح الإدارة الأمريكية الحالية، تنسجم مع تحقيق مصالح دولة الاحتلال المذكورة آنفًا. فالإدارة الأمريكية الحالية برئاسة ترامب، اتخذت العديد من القرارات التي تدمر حل الدولتين، والتي تمثلت فيما يطلق عليه صفقة القرن. وبذلك، فإن الإدارة الأمريكية تعمل على إيجاد محدداتٍ وأطرٍ جديدة للحل، لا تراعي فيها حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. وبالتالي، فالإدارة الأمريكية الحالية غير مهتمة بموضوع الانتخابات، بقدر ما يهمها المضي قدما في تحقيق تفاصيل صفقة القرن.

    السيناريوهات الممكنة

    عمليا، اللاعب الأكثر تأثيرا في إجراء الانتخابات أو عدمه، هو حركة فتح، متمثلة بشكل أساسي برئيسها، ورئيس السلطة الوطنية محمود عباس، الذي تتمركز السلطة بيده. فقرار عباس الذهاب للانتخابات، خاصة بعد موافقة الفصائل الفلسطينية على المشاركة، يعني أن الانتخابات ستتم إذا تم تجاوز تحدي إجراء الانتخابات في القدس. وبالتالي، من الضروري مقاربة أهداف حركة فتح والرئيس عباس في الوقت الحالي، مع المصالح المتحققة من إجراء الانتخابات. وبالتالي فالسيناروهات المتوقعة لمسار الانتخابات هي:

     السيناريو الأول: عدم إجراء الانتخابات

    يرتبط هذا السيناريو بحركة فتح، وهو يُطرح لأن تقديرات حركة فتح تشير إلى أن إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، لا يحقق مصلحتها في ترتيب بيتها الداخلي، بل ربما تضرها ضررا واضحا. فالدخول في الانتخابات فيه مخاطر كثيرة، خاصة إذا استطاع تيارا دحلان والبرغوثي تقوية الاصطفاف الداخلي لصالحهما. ترتيب البيت الفتحاوي الداخلي، حسب بعض قيادات الحركة، يمكن أن يتم بطرق أخرى أكثر فعالية، وأقل مخاطرة، وأقل خسارة على المدى الاستراتيجي، لأن الانتخابات لا تعني بالضرورة قدرة حركة فتح على الفوز في المجلس التشريعي، أو حتى إبقاء محمود عباس، أو غيره، في رئاسة السلطة. يتعزز هذا الاحتمال في ظل وجود مؤشرات على افتقاد حركة فتح لقاعدة شعبية واسعة، خاصة في الضفة الغربية، نتيجة لانسداد المسار السياسي، واستمرار التنسيق الأمني، والتضييق على الحريات العامة، وتدهور الحالة الاقتصادية. إضافة إلى ذلك، من الممكن أن تأتي الانتخابات لصالح الخصم السياسي لحركة فتح، أي حركة حماس، في حال حصولها على أغلبية، أو حتى على نسبة جيدة تمكنها من إعادة ترتيب صفوفها الداخلية، واستعادة شرعيتها في الضفة الغربية، وبالتالي عودة فعاليتها ونشاطها فيها، بعد أن تم تقويضها لأكثر من 12 سنة، وهو الأمر غير المرغوب فتحاويًا، لذلك ليس من مصلحة فتح إجراء الانتخابات.

    أما مصلحتها في البحث عن مخرج لمسار التسوية المأزوم، فإن ذلك يشكل دافعًا آخر لحركة فتح في عدم إجراء الانتخابات، إذ أن المشهد السياسي في “إسرائيل”، يشير بنسبة كبيرة إلى خروج نتنياهو من هذا المشهد، سواء بسبب توجيه الاتهام له بالفساد من قبل المدعي العام الإسرائيلي، أو بسبب المشهد المعقد الذي أفرزته الانتخابات الأخيرة. وبالتالي، فإن المؤشرات تسير باتجاه بيني غانتس لتشكيل الحكومة الإسرائيلية. ورغم أن غانتس يُحسب على اليمين الوسط، إلا أنه من ناحية أولية لا يعارض العودة إلى المفاوضات مع أبو مازن. من هنا، فإن إجراء الانتخابات الفلسطينية، وحصول حماس على شرعية جديدة، وربما شرعية تعزز قوتها في المشهد الفلسطيني، يدفع أبو مازن إلى عدم إجراء الانتخابات، وذلك من أجل أن يذهب إلى المفاضات دون وجود مجلس تشريعي، ولا معارضة، ولا “وجع راس” كما يُقال.

    على المستوى الإقليمي والدولي، من المرجح عدم وجود رغبة دولية لإعطاء حماس فرصة لتجديد شرعيتها في المشهد الفلسطيني، وتعزيز حضورها من جديد، وخاصة في الضفة الغربية. كما أن الجدية تجاه إجراء الانتخابات لاعتبارات الديمقراطية وشرعية المؤسسات، تبقى محل تساؤل، حيث تعامل المجتمع الدولي مع غياب هذه الحالة لأكثر من عقد من الزمن، ورضي بالوضع القائم، الذي هو بعيد كل البعد عن المعايير الديمقراطية، التي يتغنى بها المجتمع الدولي.

    إضافة إلى ذلك، فإن مصالح دولة الاحتلال، المتمثلة في إبقاء الانقسام، واستمرار الاستيطان، والحفاظ على الأمن، وإنهاء الحالة الوطنية في القدس، تتحقق بشكل أكبر من خلال عدم إجراء الانتخابات الفلسطينية. كما أن الوضع الداخلي الإسرائيلي الحالي، يختلف عما كان عليه عام 1996، وعام 2006، حينما أُجريت الانتخابات الفلسطينية الأولى والثانية، وسمحت “إسرائيل” وقتها بمشاركة فلسطينيي القدس في الانتخابات. اليوم الوضع مختلف كثيرًا، حيث يتجه المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين، واليمين المتشدد، الذي ينظر إلى القدس بحساسية شديدة. كما أن “إسرائيل” اليوم لا تبالي بالمجتمع الدولي ، ولا بالعالم العربي المتناحر، ولا بالأمم المتحدة ، ولذا فليس من المستبعد أن تمنع “إسرائيل” فلسطينيي القدس من المشاركة في الانتخابات السياسية الفلسطينية، الأمر الذي سوف يتسبب في رفض الفلسطينيين لإجراء الانتخابات دون القدس، سواء كان ذلك لأسباب وطنية جوهرية، أو فرصة للتنصل من الانتخابات لدى من لا يرغبون فيها. هنا يُذكر أن “إسرائيل” اعتقلت نواب القدس عن حركة حماس، ووزير القدس في حكومة حماس، وأبعدتهم عن القدس إبعادًا دائمًا، وسحبت هوياتهم، دون أن يحرك أحد ساكنًا، وأصبح الأمر واقعًا قائمًا.

    باختصار، فإن مصلحة عباس، والإقليم، والمجتمع الدولي، وحتى “إسرائيل”، تكمن في عدم إجراء الانتخابات الفلسطينية، وتتطلب العمل على تحجيم حماس وشرعيتها، إلا إذا كان لديها الاستعداد للانخراط في عملية التسوية السياسية، وهو ما لا تدعمه أي مؤشرات.

    وفي هذا السياق، قد يظهر تخوف حماس غير المعلن في حال مشاركتها في الانتخابات، فإذا فازت في الانتخابات التشريعية مرة أخرى، فستواجه تحديًا في استحقاقات هذا الفوز، وخاصة تكرار تجربة عام 2006، والحصار الذي فرضه العالم على حكومتها، وعلى أعضائها في المجلس التشريعي. وإذا خسرت الانتخابات، فإن ذلك قد يؤدي إلى إضعافها، وزيادة الضغط عليها، وعلى برنامجها.

    السيناريو الثاني: إجراء الانتخابات

    تمر القضية الفلسطينية بواحدة من أسوأ مراحلها، نتيجة الدعم اللامتناهي من الإدارة الأمريكية لحكومة نتنياهو، لتصفية العديد من ملفات الحل النهائي، كالقدس، واللاجئين، والاستيطان. يأتي ذلك كله في ظل استمرار حالة الانقسام والتشرذم الفلسطيني الداخلي. المؤكد هو أن هذه الحالة أضعفت جميع الأطراف الفلسطينية سياسيا، وأن الرئيس عباس تحديدا، بات يواجه تحديات على عدة مستويات: فلسطينيا وفتحاويا، ويحتاج إلى أكبر حشد شعبي للوقوف خلفه لمواجهة هذه التحديات، وخاصة صفقة القرن، وموت مسار أوسلو. وعلى الصعيد الإقليمي والدولي، يسعى الرئيس عباس إلى إقناع الأطراف المختلفة، بأن الكل الفلسطيني ما زال مقتنعا بحل الدولتين، وهذا ما ذكره بشكل واضح في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة، حينما أشار إلى أنه ما زال مؤمنا بأن الحل الوحيد، هو حل الدولتين. إن صح هذا التوقع، فهذا يعني أن عباس يريد العمل على احتواء حركة حماس، وكسب حشدها الشعبي، لتقوية موقفه في مواجهة صفقة القرن، وتوظيف ذلك في الدعوة للعودة إلى مسار التسوية. ما يرجح هذا السيناريو كذلك، حديث بعض القيادات من حركة فتح عن إمكانية الترشح للانتخابات، بقائمة واحدة مشتركة بين حماس وفتح. قبول حماس بذلك، قد يعزز موقف الرئيس عباس في تحقيق ما يراه مصالح وطنية، وربما مصالح حزبية فتحاوية، مثل ترتيب البيت الفتحاوي الداخلي، وجر حماس، ولو بشكل غير مباشر، إلى مسار التسوية، أو استخدامها في تحقيق ذلك. لكن من الجدير ذكره، أن هذا السيناريو يتطلب من حماس قبولها الترشح في الانتخابات بقائمة مشتركة مع فتح.

    أما على صعيد حركة حماس، فإن إجراء الانتخابات عموما، يحقق جملة من المصالح، أهمها التحلل، أو التخفيف من عبء إدارة قطاع غزة في ظل الحصار الخانق عليه، سواء بتحمل حركة فتح هذا العبء، إذا أفضت نتائج الانتخابات إلى حصولها على الأغلبية، أو بمشاركة الأطراف الفلسطينية الأخرى في إدارة القطاع. وفي حال تحقق سيناريو إجراء الانتخابات، وفوز حركة حماس بالأغلبية، أو حتى حصولها على مقاعد معتبرة في المجلس التشريعي، فستعتبر حماس ذلك فرصة ومدخلًا لتعزيز وجودها في الضفة الغربية، وزيادة احتمال دخولها في منظمة التحرير، وبالتالي تعزيز شرعيتها مرة أخرى في الساحة الفلسطينية والدولية. 

    السيناريو المرجح

    بإجراء مقاربة موضوعية للسيناروهات المحتملة، فإنه السيناريو الأول، وهو عدم إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في المرحلة الحالية، هو الأكثر احتمالًا، وذلك للاعتبارات التالية:

    • رغبة حركة فتح في عدم تعميق أزمتها الداخلية من خلال المشاركة في الانتخابات.
    • ضعف فرصة حركة فتح في الفوز بأغلبية في الانتخابات التشريعية.
    • رغبة حركة فتح والسلطة الفلسطينية، وربما الإقليم والمجتمع الدولي، بعدم تجديد الشرعية لحركة حماس.
    • معارضة دولة الاحتلال وعدم سماحها بإجراء الانتخابات في القدس.
    • رغبة الاحتلال الإسرائيلي والإدارة الأمريكية الحالية في استمرار الانقسام الفلسطيني.
    • عدم جدية المجتمع الدولي في ضغطه باتجاه إجراء الانتخابات.

    بالرغم مما يُقال عن وجود ضغوط دولية على الرئيس عباس لانتخاب مجلس تشريعي جديد بعد حل المجلس الأخير، فإن الرئيس عباس سيعمل على إقناع العالم بمخاطر الانتخابات، لأنها قد تسفر عن عودة حماس مرة أخرى إلى النظام السياسي الفلسطيني، الأمر الذي سيخلق انعكاسات لا يريدها المجتمع الدولي. ورغم ما يُقال أيضا عن استحقاق مهم يسعى إليه الرئيس عباس في أيلول/ سبتمبر القادم، وهو التقدم إلى الأمم المتحدة بمشروع حصول فلسطين على العضوية الدائمة، وما يتطلبه ذلك من وجود برلمان منتخب، فإن الرئيس عباس يفضل تأجيل الموضوع إذا كانت الانتخابات ستُظهره ضعيفًا، أو لا يمثل الكل الفلسطيني.  

    الاعتبارات المذكورة ترجح أن دعوة الرئيس عباس للانتخابات، جاءت كمناورة سياسية لإحراج حركة حماس، وكرسالة دعائية لتطمين المجتمع الدولي. لكن إعلان حركة حماس والفصائل الفلسطينية، الاستعداد للمشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية، فاجأت الرئيس وحركة فتح. ولكن رغم التصريحات الإيجابية تجاه استحقاق الانتخابات، إلا أن الرئيس عباس وحركة فتح، سيخلقون المبررات لعدم إجراء الانتخابات في هذه المرحلة.

  • هل ستجري انتخابات فلسطينية؟

    لا يبدو أنه ستجرى انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني في أيار/ مايو القادم (ولا حتى في المستقبل القريب)، وفق ما دعت إليه المحكمة الدستورية للسلطة الفلسطينية في رام الله، ولا بناء على الموافقة والترحيب الذي صاحبتها من حركة فتح وقيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية.

    ويبدو أن فتح ستتعامل عملياً مع الشق الذي ترغبه في قرار المحكمة، وهو المتعلق بحلّ المجلس التشريعي، أما الشق المتعلق بالدعوة للانتخابات خلال ستة أشهر، فلا يظهر أن ثمة رغبة حقيقية لدى فتح بإنفاذه؛ بغض النظر عن اعتراض باقي الفصائل الفلسطينية على المحكمة الدستورية نفسها، وعلى صلاحياتها وعلى قراراتها.

    أولى مؤشرات عدم إجراء انتخابات هي أن الدعوة إليها جاءت في سياق صراع فتح وقيادة السلطة مع حركة حماس، وفي بيئة تزيد من تأزيم المشهد الداخلي الفلسطيني. وبالتالي فالانتخابات لم تأت في جوهرها كوصفة للعلاج، بقدر ما كانت غطاء لصراع إرادات، ومحاولة نزع الشرعية عن حماس، وقصقصة أجنحتها. أي أن قرار الدستورية جاء ليضع الزيت على النار، لا ليقدم خريطة طريق للخروج من المأزق.

    ولم يكن من المعقول أن تترك قيادة فتح الخط المتوافق عليه مع الفصائل الفلسطينية وفق اتفاق المصالحة سنة 2011، لتفرض مساراً جديداً، يُفجّر البيئة الداخلية، ثم تتحدث عن “عرس انتخابي” فلسطيني. فالجهة الجادة في عمل الانتخابات؛ عليها إيجاد البيئة الصحية المناسبة لإجرائها؛ وليس القيام بتوتير الأجواء، ولا تبديد عملية بناء الثقة، والتي تحتاجها العملية الانتخابية “الديموقراطية” الشفافة. وقد واصلت قيادة فتح لغتها التأزيمية، مع حماس في وقت تحتاج فيه للوصول إلى تفاهمات معها، إذ إن مقاطعة حماس سيفقد الانتخابات الكثير من مصداقيتها، كما أن مشاركة قطاع غزة في الانتخابات مرهون أساساً بموافقة حماس وتعاونها.

    وكان عضو قيادة فتح حسين الشيخ في حديث تلفزيوني في كانون الثاني/ يناير 2019 قال إنه لن تكون هناك حكومة وحدة مع حماس قبل إنهاء الانقسام إلا “على جثتنا”، وأنهم لن يسمحوا بحكم “الظلاميين”. ثم عاد الشيخ نفسه في 23/2/2019 للتهديد باتخاذ قرارات وإجراءات تمس وجود حماس ومستقبلها. كما أن حماس من طرفها رفعت من درجة نقدها لقيادة فتح والسلطة؛ فقام أعضاء التشريعي بإصدار قرار بإنهاء رئاسة عباس، كما نُفذت حملات لنزع الشرعية عنه.

    المؤشر الثاني أن قيادة فتح هي بحاجة إلى “روافع” وطنية لإجراء الانتخابات، على الأقل على مستوى عدد من الفصائل الفلسطينية الوازنة، التي تشارك في الانتخابات؛ بحيث تتمكن فتح في النهاية من “محاصرة” حماس، وإجبارها إما على الخروج من اللعبة السياسية، أو الرضوخ لشروط فتح في إدارة العملية السياسية. غير أن ما قامت به قيادة فتح تَسبَّب في زيادة المعارضة الفلسطينية لها، ورفضت كافة الفصائل الرئيسية قرار الدستورية بحل التشريعي، كما رفضت التعاطي بجدية مع موضوع الانتخابات، وألقت باللائمة على فتح وقيادة السلطة في تأزيم الوضع الفلسطيني. ورفضت هذه الفصائل المشاركة في الحكومة المقترحة من فصائل منظمة التحرير لإدارة السلطة وإدارة عملية الانتخابات. وبالتالي، فقد كانت النتيجة مزيداً من عزلة فتح في الساحة الفلسطينية، ومزيداً من التلاقي بين خط هذه الفصائل السياسي والخط السياسي لحماس. وهو ما يعني أن قيادة فتح والسلطة فشلت حتى في إيجاد الحد الأدنى المطلوب، لـ”شرعنة” الانتخابات، أو لعزل حماس.

    ولا يبدو أن قيادة فتح والسلطة نفسها أنها كانت مكترثة أصلاً باستيعاب حقيقي لباقي الفصائل الفلسطينية الرئيسية المشاركة في منظمة التحرير. فهي لم تقدم أي عرضٍ يستحق الاهتمام لتجاوز الأزمة السياسية، أو لمواجهة معضلات السلطة، أو استحقاقات أوسلو. بل، بالرغم من حديثها عن حكومة تديرها فصائل المنظمة، إلا أنها تابعت خطاباً سياسياً “فوقياً”؛ بينما ظلت الفصائل على معارضتها.

    إن حالة التأزيم مع الفصائل الفلسطينية كانت المظهر الذي أدى إلى فشل مفاوضات موسكو في 11-12/2/2019 بين الفصائل، والذي فشل في إصدار بيان ختامي عنه. والذي (دون الخوض في التفاصيل) أدى إلى هجوم إعلامي فتحاوي ضدّ حركة الجهاد الإسلامي وضدّ حماس، مع قرار فتحاوي بمقاطعة حركة الجهاد الإسلامي. وهو ما أرجع البيئة السياسية الفلسطينية خطوة أخرى إلى الوراء.

    من جهة ثالثة، فإن قيادة فتح والسلطة صممت الانتخابات بحيث تُعقد فقط للمجلس التشريعي الفلسطيني، وكأن المقصود فقط هو إنهاء أغلبية حماس البرلمانية، وتهميش وضعها السياسي؛ وهو ما يندرج في إطار المناكفة السياسية، وليس إصلاح النظام السياسي الفلسطيني. إذ إن اتفاق المصالحة الذي التزمت به الفصائل الفلسطينية التزم بإجراء انتخابات متزامنة للمجلس التشريعي والمجلس الوطني والرئاسة الفلسطينية. ومحاولة إنفاذ ما يروق فقط لقيادة فتح، سيفهم منه مجرد “إعادة تموضع” لهذه القيادة، مع بقاء النظام السياسي في حالته المتردية البئيسة. وهو ما سيجد رفضاً فلسطينياً فصائلياً وشعبياً.

    المؤشر الرابع أن استطلاعات الرأي العام الفلسطيني لا تعطي مؤشرات مشجعة لقيادة فتح والسلطة بخوض انتخابات حقيقية، تشارك فيها حماس. فوفق آخر نتائج استطلاع رأي نفذه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله (وهو جهة مستقلة) فإن هناك شبه تساوٍ بين شعبيتي فتح وحماس، غير أن هنية سيفوز على عباس في الانتخابات الرئاسية بفارق 7%. وهناك 65% يطالبون عباس بالاستقالة، والنسبة نفسها تقريباً ضدّ أداء حكومة عباس، و80% يشيرون إلى وجود فساد في السلطة، و77% يطالبون برفع العقوبات التي فرضها عباس على القطاع، كما يرفض 61% موقف عباس باشتراط استلام قطاع غزة بالكامل (بما فيها السيطرة على سلاح المقاومة)، وعدد الذين يلومون عباس على سوء الأوضاع في قطاع غزة هو ضعف أولئك الذين يلومون حماس.

    وعلى ذلك، فليست ثمة مبرر لقيادة فتح والسلطة أن تجري انتخابات، إذا لم تضمن الفوز بها. وإلا فإذا لم يكن لدى فتح مانع من التعامل مع مجلس تقوده حماس؛ فلماذا عطلت المجلس التشريعي (ذو الأغلبية الحمساوية) 12 عاماً، ولماذا قامت بحله؟! ولماذا لم تنفذ اتفاق المصالحة بشأن تفعيل هذا المجلس؟!

    الطرف الإسرائيلي يملك قدرة كبيرة على تعطيل الانتخابات الفلسطينية، خصوصاً في الضفة الغربية بما فيها القدس. وهو طرف بميوله اليمينية المتطرفة، وبرغبته في الاستمرار ببرامج الاستيطان والتهويد، ليست لديه توجهات بفتح المجال للسماح بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني (على الأقل في مناطق سيطرته). وهو طرف لديه “فيتو” على فوز حماس وتجديد شرعيتها، اتساقاً مع سياسته، التي مارسها لسنوات طويلة، في إفشالها ومطاردة عناصرها وتدمير بناها التحتية. وحتى مع فتح وباقي الفصائل المؤيدة لمسار التسوية فإنه يسعى إلى تطويعها، وإلى تكريس السلطة الفلسطينية كأداة وظيفية، لا تملك فرصة التطور إلى دولة مستقلة كاملة السيادة. وليس ثمة ما يجبره لإفساح المجال أمام الفلسطينيين لبناء مؤسساتهم الوطنية المعبرة عن إرادتهم. وهذا مؤشر خامس على صعوبة إنفاذ الانتخابات في المدى المنظور.

    يدعم المؤشر السابق مؤشر سادس مرتبط بالتساوق الأمريكي مع التوجهات الإسرائيلية، والرغبة الأمريكية في تطويع الجانب الفلسطيني بما يتناسب مع “صفقة القرن”؛ وتسليم القدس للطرف الإسرائيلي، وتضييع حقّ اللاجئين في العودة، وإنشاء كيان فلسطيني منزوع السيادة على أجزاء من فلسطين المحتلة 1967. ولذلك، فإن أي ترتيبات تعيد الحيوية للمشروع الوطني الفلسطيني، أو تستوعب مكونات المقاومة المسلحة، والتيارات الإسلامية في منظمة التحرير وفي السلطة الفلسطينية، هي ترتيبات مرفوضة أمريكياً، وسيسعى الأمريكان إلى إفشالها وتعطيلها.

    من ناحية سابعة، فإن البيئة العربية بضعفها وتمزقها، وتساوقها مع الرؤى الأمريكية ومسارات التطبيع مع الجانب الإسرائيلي، وعدائها أو معارضتها لتيارات المقاومة وتيارات “الإسلام السياسي”، تُشكل عقبة أخرى في وجه إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، بشكل يستوعب كافة القوى والمكونات وفق أوزانها الحقيقية. فما زالت “الشرعية” العربية تُعطَى لمسار التسوية، ولا تسمح بأن يعيد خط المقاومة ترتيب منظمة التحرير أو السلطة على أسس جديدة؛ تجعل اتفاقات أوسلو وراء ظهرها.

    ***

    وبناء على ما سبق، فإن مجمل المعطيات تشير إلى استبعاد عقد انتخابات فلسطينية، ليس فقط في شهر أيار/ مايو القادم، وإنما طوال سنة 2019 على الأقل. وما ينبغي المراهنة عليه هو الدفع باتجاه إرادة فلسطينية حقيقية تتعامل مع الانتخابات، كأداة فاعلة لترتيب البيت الفلسطيني على أسس صحيحة، وليس مجرد غطاء لاستبعاد وتهميش قوى فلسطينية، ولا كأداة لإعطاء مزيد من الروح للمنظومة السياسية الفلسطينية المهترئة.

    المصدر: موقع ”TRT“ تي آر تي (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية) – تركيا، 27/2/2019