• ما هي وعود مؤتمر برلين من أجل ليبيا؟

    د.ياسين أقطاي

    إن المؤتمر الذي سيعقد في برلين بمبادرة من ألمانيا، من أجل تحقيق وقف إطلاق النار في ليبيا والمساهمة في توفير حل سياسي؛ كان من الممكن أن يكون مؤتمرًا بلا قيمة وكغيره من المؤتمرات السابقة، لو أن حفتر لم يمتثل لوقف إطلاق النار في اللحظة الأخيرة. لأن حفتر الذي يشن هجماته على طرابلس وقد كاد أن ياخذها، لا يريد طرفًا آخر يفاوضه ويحكم معه ليبيا.

    إن حفتر يريد السيطرة على ليبيا كاملة بعيدًا عن أي نوع من الحوار، ولولا دخول تركيا إلى هناك لكان اليوم ربما قد حقق ما يريده بالفعل. لا يوجد حتى سبب واحد لتبرير ما يشنه حفتر من عدوان، بل السبب الوحيد الذي يجعله ماضيًا بهذا العدوان هو قوة السلاح الذي بين يديه فحسب.

    الدور التركي في ليبيا

    في السياق ذاته أيضًا، لو ان تركيا لم تقم بعقد اتفاقية مع حكومة الوفاق الشرعية في ليبيا، لكن قد تحقق لحفتر فعلًا ما يريد، دون الحاجة لمؤتمر برلين وغيره.

    أما الآن فإن الاجتماع في برلين من أجل ليبيا هو أمر منطقي. لأن حفتر يعلم أنه الآن أمام قوة لا يمكنه تجاوزها، ومنذ هذه الساعة هو يعلم أنه لن يتمكن أصلًا من تدميرها. إذن لا احتمال لعدم مشاركته في مؤتمر برلين، هذا فضلًاعن أنّ تركيا له بالمرصاد في حال خروج الأمر عن سياقه وطريقه الصحيح.

    لقد غيرت تركيا جميع الموازين على الساحة، عبر دخولها. كان المجتمع الدولي يتباكى بدموع التماسيح مكتفيًا بمشاهدة حكومة طرابلس التي اعترف بها، وهي تُدمّر من قبل قوة غير معترف بها أصلًا. بل على الرغم من إعلان حفتر كمجرم حرب من قبل الأمم المتحدة، فإنها لم تقم بفعل شيء يمنعه من الاستمرار بإجرامه. وحتى المساعدة التي طلبتها حكومة الوفاق من تركيا، كانت قد طلبتها أيضًا من الأمم المتحدة، إلأ أنها أي الأمم المتحدة حينما توانت عن تقديم الدعم اللازم لحكومة الوفاق، لبّت تركيا ذلك النداء على الفور.

    إن أعلى ممثل للقيم والأخلاق الدولية في برلين ستكون تركيا. ما تريده فقط هو إيقاف عدوان حفتر، وتسليم ليبيا لليبيين. وحين توجيه نداء حول خروج كل القوى الأجنبية من ليبيا، فإن أول دولة ستدعم هذا النداء هي تركيا، بشرط قبوله بشكل حقيقي من كل الدول.

    أريد أن أسرد هذه الحقيقة كنوع من التذكير للإدارة المصرية، التي تقول أن حدودها الطويلة مع ليبيا تفرض عليها أن تكون حاضرة بشكل مباشر: إن وجود حدود طويلة مع دولة ما لا يمنحك الحق أبدًا باحتلال تلك الدولة، وإن ذلك بالتأكيد لا يمنحك الحق أبدًا بتصدير نموذج الانقلاب الذي تحكمين به نحو تلك الدولة.

    حين التصرف من قبل الإدارة المصرية على هذا النحو، فإن السيسي يكون قد اشترك في الجريمة مع حفتر، ذلك المجرم الذي يقوم بارتكاب أنواع الجرائم ضد شعبه. إن النموذج الذي يسعى لفرضه في ليبيا على يد حفتر، لا يحمل أي قيمة بالنسبة للشعب، حيث يقومون بتنفيذ المجازر بحقه على مرأى ومسمع، فضلًا عن اعتقاله ومطاردته واحتلال أراضيه.

    الجلوس مع السيسي والأسد على الطاولة؟

    حينما نقول لوسائل الإعلام المصرية التي اتخذت ذريعة من الاتفاق التركي-الليبي، لشنّ حملة عداء غير مسبوقة ضد تركيا؛ “إن تركيا ليست عدوًّا لأي دولة عربية أو مسلمة أيًّا كانت، وليس هناك بالأصل أسباب تقتضي وجود عداء بين البلدين، والاتفاق الذي تم بين تركيا وليبيا، تصوّروا أنه ذاته قد تم مع مصر”؛ فإننا نقصد الإشارة من ذلك للموقف غير العقلاني للنهج الذي يحكم مصر. ولو كان هناك فعلًا إدارة عاقلة في مصر، لما راحت تتفق مع الروم واليونانيين، فقط من أجل غاية واحدة؛ هي النكاية بتركيا، على حساب الإضرار بالمصالح المصرية. إن النظام المصري الآن يقوم بعقد اتفاقات مع الآخرين على الرغم من أنها تضر بمصالح مصر، نكاية بتركيا فحسب. إن هذا لن يفيد مصر في شي على الإطلاق، بل يضرها.

    علاوة على ذلك، إن الاتفاق التركي-الليبي، يعيد الحقوق التي تم سلبها من المصريين، عبر الاتفاق الذي تم عقدهم باسم بلدهم مع اليونان وقبرص الرومية.

    حينما قلنا ما سبق، قفز العديد متحدثًا عن أننا نادمون على سياساتنا السابقة حتى الآن، وأننا أمام منعطف تام. بل لم يتم الاكتفاء بهذا فحسب؛ بل هناك من قدّم التوصية والنصحية بالجلوس حتى مع الأسد، بما أن المنعطف موجود وباب التوبة لا يزال مفتوحًا.

    كم يقدّمون قرابين من الأرواح من أجل الجلوس مع ديكاتوريين تتقاطر الدماء من أيديهم؟

    ما قلته سابقًا حيال مصر، فإنني قصدت مخاطبة الإعلام المصري وكذلك الشعب المصري. وما نقوله باسم تركيا، لا يحمل أي شعور عدائي تجاه الشعوب سواء في مصر أو ليبيا، بل إنه عبارة عن تذكير بالإرث التاريخي المشترك، والمصالح المشتركة أيضًا. لكن مع الأسف، يبدو أن النظام المصري لا يمثّل مصالح الشعب المصري إطلاقًا. إن الموقف التركي من السيسي والأسد، لا يعني أنه بأي شكل من الأشكال ضد الشعب المصري والسوري.

    أيّ طاولة سيتم الجلوس عليها مع الأسد، ذلك الظالم الذي لا تزال يديه تقطر دمًا، الذي قام ولا يزال يقوم حتى اليوم بارتكاب المجازر تلو المجازر بحق شعبه وأبناء جلدته، على أي شيء سيتم التفاوض معه، وماذا سيُطلب منه أصلًا؟.

    كذلك الانقلابيّ السيسي الذي لا توجد مكيدة ضد تركيا إلا وكان شريكًا فيها، والذي لا يثق بوعوده حتى مؤيدوه؛على ماذا ستتفاوض معه تركيا ولماذا؟

    الذين يدعوننا للجلوس مع السيسي من حين لآخر، ألا يعلمون أنه لا يمكن الوثوق بأي شكل من الأشكال، بأحد قام بقتل رئيسه الشرعي المنتخب قتلًا بطيئًا وهو في السجن، وارتكب مجازر بحق شعبه، وسجن ما يقرب من مئة ألف معتقل سياسي حتى الآن، يذوقون كل يوم كل أنواع التعذيب؟ إنْ كانوا هم يثقون بكلام ذلك الشخص، فإنهم قد وضعوا أنفسهم في موضع عدم ثقة.

    حيث يكونون بذلك فقط، قد تعرّوا مظهرين بؤسهم الضميري والإنساني والأخلاقي.

  • مراد هوفمان

    د.خالد حنفي – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

    لمحاتٌ من حياته، وأضواءٌ على أفكاره

    مساء الأحد الثاني عشر من يناير 2020م رحل عن عالمنا الدبلوماسي والمفكر الدكتور/ مراد هوفمان رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وهوفمان ألماني مسلم ولد سنة 1931م ، وتحصل على الدكتوراة في القانون من جامعة هارفارد، وأتقن اللغات: الألمانية، والإنجليزية، والفرنسية، وأسلم سنة 1980م، وعمل كخبير في مجال الدفاع النووي في وزارة الخارجية الألمانية، ثم مديرًا لقسم المعلومات في حلف الناتو في بروكسل من عام 1983 حتى 1987م، ثم سفيرًا لألمانيا في الجزائر من 1987 حتى 1990م، ثم سفيرًا في المغرب من 1990م حتى 1994م.له عددٌ من المؤلفات خاطب به المجتمع الغربي معرِّفا ومدافعاً عن الإسلام، كما خاطب ببعضها جماهير المسلمين، ومن أهمها: الإسلام كبديل، الإسلام في الألفية الثالثة ديانةٌ في صعود، خواء الذات والأدمغة المستعمرة، يوميات ألماني مسلم، ورحلة إلى مكة، وترجمت أغلبها إلى العربية والإنجليزية، وكتاباته تتسم بالعمق والوضوح، وفهم الإسلام والغرب، وقد أبدع في حسن عرض الإسلام للأوروبيين، ونجح في إظهار القيم المشتركة بين الإسلام كدين عالمي والحضارات الأخرى، لكنه للأسف لم يُقرأ له بالقدر الذي يتناسب مع نتاجه الفكري.

    بداية الهداية

    أثناء عمل هوفمان بالجزائر في عامي 1961/1962م، عايش فترة من حرب استمرت ثماني سنوات بين قوات الاحتلال الفرنسي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، ولاحظ مدى تحمل الجزائريين لآلامهم، والتزامهم بالصوم في شهر رمضان، ويقينهم بأنهم سينتصرون، وسلوكهم الإنساني وسط ما يعانون من آلام، وأن الباعث لهم في كل ذلك هو الإسلام، وتيقن هوفمان من إنسانية الجزائريين المطلقة عندما تعرضت زوجته للإجهاض وواجهت الموت بسبب عدم تمكن سيارة الإسعاف من الوصول إليها لظروف الحرب، فاتجه هوفمان بها إلى عيادة خاصة، وأنقذ حياتها سائقه الجزائري بالتبرع بدمه لامرأة أجنبية غير مسلمة. وهذا يؤكد على تلك الحقيقة القرآنية: قل إن الهدى هدى الله؛ فظاهرياً مشهد المقاومة الجزائرية للمستعمر لا يوحي بشيء يدفع للتفكير في الإيمان، لكنه وقع مع هوفمان، ما يعني أن المسلمين في مجموعهم لو أرادوا الدعوة إلى الإسلام فما عليهم إلا التمسك به وتجسيده في سلوكهم وأخلاقهم، تماماً كما قال هوفمان عندما سئل: كيف ندعو للإسلام؟ قال: عندما نمارسه.

    الآية التي زلزلت هوفمان وعمَّقت إيمانه

    وبدأ هوفمان يقرأ القرآن بتمعن وتدبر فتأثر به، لكن آية في القرآن أذهلته وقادته إلى الإيمان الحق، وهي قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)} [الأنعام: 164] وقد فهمها أول الأمر خطأ؛ لأنه اعتقد أنها غير أخلاقية لأنه يجب مساعدة الناس لبعضهم، وبعد مزيد تأمل توصل إلى أنها تؤكد على حقيقتين مهمتين: الأولى: أن كلا من الرجال والنساء سيواجهون ربهم وخالقهم مباشرة ودون أدنى احتمال لوجود وسيط بينهما. الثاني: رفض وإنكار مفهوم الخطيئة الأزلية الموروثة، فإذا لم ينطلق أحدنا من فرضية أننا جميعا بحاجة ماسة للنجاة فلن يبحث أى منا عن المنقذ وبالتالي فلن يجد منقذاً له.

    وهذا يعني أن القرآن الكريم مفتاح الهداية والمدخل الصحيح لقلوب وعقول كل الناس لمعرفة الإسلام، لكن تبقى إشكالية الترجمات لمعانيه وحسن تقديمه لمن لا يعرف العربية تحديا ًكبيراً؛ لهذا فإن مما حرص عليه هوفمان بعد إسلامه هو اهتمامه بالقرآن، وإعادة إخراجه لترجمة سابقة للقرآن إلى اللغة الألمانية رغم وجود ترجمات أخرى.

    لقد كان هوفمان كما يقول عن نفسه قريباً من الإسلام بأفكاره قبل إشهار إسلامه والنطق بالشهاديتين، فكان مسلماً من الناحية الفكرية الذهنية لا العملية التطبيقية ثم انتقل بعدها إلى الالتزام السلوكي والأخلاقي بتعاليم الإسلام، ومن أوضح مظاهر تحوله وتمسكه بالإسلام توقفه عن شرب الخمر وأكل الخنزير فيقول عن ذلك:”لقد ظننت في بادئ الأمر أنني لن أستطيع النوم جيدًا دون جرعة من الخمر في دمي، بل إن النوم سيجافيني من البداية، ولكن ما حدث بالفعل كان عكس ما ظننت تمامًا، فنظرًا لأن جسمي لم يعد بحاجة إلى التخلص من الكحول، أصبح نبضي أثناء نومي أهدأ من ذي قبل. صحيح أن الخمر مريح في هضم الشحوم والدهون، لكننا كنا قد نحَّينا لحم الخنزير عن مائدتنا إلى الأبد، بل إن رائحة هذا اللحم الضار (المحرم) أصبحت تسبب لي شعورًا بالغثيان”.

    وجد الطريق فسلكه ووجد غيره الطريق فتركوه

    إن أهمية قراءة هوفمان اليوم تكمن في أنه كدبلوماسي وفيلسوف ألماني وجد الطريق فسلكه، بينما وجد غيره من المسلمين الأصليين الطريق فتركوه، فقد تنبأ الرجل بشيوع ظواهر الإلحاد وترك الدين، لكنه يقدم أجوبة متماسكة لأسئلتهم، وتحليلاً منطقيا للظاهرة، ولا يقلل هذا من تفاؤله واستبشاره الدائم في كتاباته على ظهور الإسلام وانتشاره.

    الجهاد الفكري بديلا عن الخلاص الفردي

    مما تفرد به هوفمان أنه لم ينعزل بعد إسلامه، ولم يقرر البقاء في تصوف وروحانية يحقق بها الخلاص الفردي لنفسه والإشباع الروحي لقلبه الظاميء والمرهق من الحضارة المادية التي لا تقيم وزنا للقلب والروح، ولكنه قرر أن يكتب وأن يجاهد بفكره وقلمه وأن ينير الطريق للناس، ورغم شدة الهجوم عليه بعد إسلامه وقبيل صدور كتابه الشهير الإسلام كبديل، والمطالبة بإقالته من عمله بالخارجية الألمانية، والإفتراء عليه بقول ما لم يقل، ثبت الرجل واستمر يناضل ويدافع عن الإسلام ويبشر بقدومه، بل إنه كان يعلم جيداً تبعات كتابته فقال مرة للناشر عندما أرسل إليه كتابه الإسلام عام 2000 : آمل أن لا يسبب كتابي لك أو لمؤسستك أية مشاكل، ولعله استلهم هذا المعني من التجربة الجزائرية المقاوِمة، التي كانت مقدمة سؤاله وقراءته عن الإسلام، ثم التعمق والتدبر الدائم للقرآن الكريم الذي يخرج المسلم من دائرة العمل والخلاص الفردي إلى إصلاح الآخرين والعمل على هدايتهم واستنقاذهم.

    تفاؤل رغم كثرة المحبطات

    لا ينفك التفاؤل والاستبشار عن هوفمان في أغلب كتبه رغم كثرة المحبطات وتضاعف عوامل الإحباط والفتور، ولعل أسباب الفتور واليأس قد تضاعفت اليوم، بل إن الحالة النفسية المحبطة للشباب تمظهرت في أحايين كثيرة في الخروج من الدين وعدم الثبات عليه، لهذا فإن قراءة كتب هوفمان لا ترتقي بك فكريا، أو تفتح لك نافذة على الفكر الغربي فحسب، وإنما تعطيك جرعة هائلة من التفاؤل والاستشبار بمستقبل الإسلام المبني على معطيات علمية وقراءة للحضارة الغربية من الداخل، فتفاؤله لا يقوم على دغدغة العواطف والمشاعر، أو القراءة التعسفية لنصوص ظهور الإسلام في آخر الزمان، وإنما يقوم على رؤية بصيرة مقيدة بالعمل الراشد المستدام.

    استشراف للمستقبل لا ينقطع عن الماضي

    يلفت النظر في كتابات هوفمان الاهتمام بالمستقبل، وتوقع ما سيجري في العقود القادمة من متغيرات حضارية وموقع الإسلام منها، فيخصص ثلاثة من كتبه للحديث عن مستقبل الإسلام: الإسلام كبديل، الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود، الإسلام عام ألفين، والاهتمام بالمستقبل عزيز نادر في فكرنا وعملنا وتوجاهتنا في الجملة كمسلمين، وعكسه في الغرب الذي صار علما مستقلا وفنا له أهله، ولا يخفي هوفمان أن المستقبل للإسلام وأنه يملك حلا وجوابا للمأزق الحضاري للعالم الغربي اليوم شريطة أن نحسن تقديمه وفهم من نخاطبهم به، فيقول رحمه الله: أعتقد أن الإسلام يمكنه أن يقدم كل ما يحتاجه أمر إنقاذ الغرب، بالرغم من عوامل النقص التي يعانيها العالم الإسلامي من المعوقات والرذائل: كالأمية، والفقر، والفساد، والظلم الاجتماعي، والتعذيب، والبلادة، وزرع الفتن، وقلة التحمل، والانفراد بالسلطة، والتمييز ضد النساء، والمادية المتزايدة.

    التأسيسي لا الدفاعي، والفلسفي لا التبريري، والافتخار لا الاعتذار

    ينحو هوفمان عكس التوجه العام للمسلمين ومفكريهم ودعاتهم في العقود الأخيرة؛ حيث غلب على خطابهم الدفاع لا التأسيس، فقد انشغلوا بالبقاء في دائرة رد الشبهات ودفع التهم عن الإسلام لا التأسيس للفكر الإسلامي وإصلاحه، وهذا التوجه أخَّر مسيرة الدعوة الإسلامية كثيراً حيث استنفدت الجهود والطاقات للعلماء والدعاة في الدائرة الدفاعية لا التأسيسية، أما هوفمان فاشتغل على التأسيسي قبل الدفاعي، ورفض التبرير أو الاعتذار عما يثار حول الإسلام، وإنما افتخر بالإسلام وتعاليمه، ورد الأسئلة والشبهات على طارحيها، وجعلهم هم في موقف الحاجة إلى الاعتذار والتبرير.

    فقه أبي حنيفة الأنسب لأوروبا

    يعتقد هوفمان أن مذهب أبي حنيفة أنسب للمسلمين في أوروبا من المذاهب الأخري خاصة المذهب الحنبلي، وتلك نظرة عميقة منه رحمه الله، فهذا ما ترجّح عندي منذ سنين حتى كتبت كتاباً عنوانه: أبو حنيفة فقيه الأقليات، ولذلك أسباب كثيرة منها: إعلاؤه من قيمة العقل، رفعه من قيمة الحريات الفردية والشخصية، ظهور الجانب الإنساني والأخلاقي في فقهه مقارنة بالمذاهب الأخرى، على أننا يجب أن نؤكد على أن العصبية المذهبية في الجملة تضر بالوجود الإسلامي في أوروبا ولا تخدم مقاصده بل تفرق المسلمين وتضر بوحدتهم.

    اهتمامه بالمجلس الأوروبي للإفتاء ودوره

    اهتم هوفمان بالعمل المؤسسي، فساهم في تأسيس مؤسسة جسور للتعريف بالإسلام، وكان مستشاراً للمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، وهو بهذا يبعث برسالة عملية لمسلمي أوروبا للتوجه نحو المؤسسية بدلاً من الفردية، كما أثني على المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ودوره، وفقهِ واعتدال رئيسه السابق العلامة الشيخ يوسف القرضاوي، ونبه إلى خطر الفتاوى الواردة من خارج أوروبا؛ لأنها تفتقر إلى المعرفة بالواقع وهو ركن أصيل لإخراج رأي فقهي معتبر.

    الأسرة والأخلاق همٌ واقعي وحلٌ إسلامي

    خراب الحضارات يبدأ وينتهي عند العائلة هكذا يعنون هوفمان في مقالٍ مطول له، وفي كتبه يتوقف طويلا عن واقع الأسرة والأخلاق، وأن إنهيار الأسرة يعني انهيار المجتمع بأسره وأن مفتاح حل معضلتها في الإسلام، ويعدِّد مظاهر التحول السلبي للأسرة في المجتمع الغربي المتمثلة في (المعدلات المربكة للطلاق – الأمهات الوحيدات – الأطفال الذين يعيشون دون والدين – الدعارة – والممارسات الجنسية غير القانونية والمنحرفة- والعنف الطلابي – إساءة استخدام المخدرات، التي انتشرت إلى حدٍّ صار معه العالم الغربي مدمنًا في مجموعه، والإدمان الذي يعانيه الغربيون ليس إدمانًا كيماويًّا دائمًا، فالتلفزيون والإنترنت أيضًا ربما صارا إدمانًا( ويرى هوفمان أن المسلمين يحملون بإسلامهم رسالة إنقاذ الأسرة حيث يضعونها على رأس المؤسسات الاجتماعية، وهم كذلك بحكم التوازن العقيدي الأمل الوحيد الباقي للقضاء على المخدرات.
    ويتنقد هوفمان بشدة إباحة الإجهاض قانوناً وديناً، ويفتخر بتحريمه في الإسلام إلا إذا كانت هناك خطورة على حياة الأم، ويدعو المحافظين الغربيين للدخول في تحالف مع الإسلام لمنع الإجهاض.

    الصلاة حل للتوتر والقلق النفسي

    يرى هوفمان أن الإنسان الغربي مجهَد بشكل مفزع، حتى الأطفال في المدارس، وحتى المتنزهون أيام العطلات متوترون مجهدون، وهم دائموا التردد على الأطباء النفسيين، للتغلب على مشكلات الحياة، ويقرر أن الحل يكمن في الصلاة فيقول: مثل هؤلاء الناس سوف يجدون الإجابات عن أسئلتهم كلها باختيارهم تكنيكًا إسلاميًّا للتأمل الدائم المنتظم (مثل الصلاة، والتأمل العقلي المواكب لها)! إن الإسلام تسليم لله تعالى، والتقوى ربط للضمير به عزّ وجل.
    نموذج للمسلم العامل الذي لم يستتر بإسلامه
    لقد كان الدكتور مراد هوفمان رحمه الله تعالى نموذجاً للمسلم العامل الذي لم يستتر بإسلامه، ولم يستسلم للعواصف رغم شدتها، وإنما قاومها بعلم وحكمة، ونجح في تجاوزها وقدم خدمة جليلة للإسلام والمسلمين في أوروبا فجزاه الله خير الجزاء. وإن أعظم وفاء له بعد موته أن نقرأ له، وأن نوجد من بيننا من يخلفه ويكمل مشروعه، والله أعلم حيث يجعل رسالته.